فن الرواية بشكله الحالي الذي ورد إلينا من الخارج (الغرب) مع مراحل تطوره منذ بداياته حتى يومنا هذا؛ هل هو صنيعة عربية أم تم تخليقه في بيئة غربية؟، الحقيقة إن هذا اللون الأدبي تم استيراده من الغرب بالكامل هو وفن القصة القصيرة بشكلها الحالي، إذن ليس لنا في صياغته على شكله الحالي فضل ولا إحسان أو حتى مع بدايات نشأته، أنما سرنا على دربهم وأبدعنا ما أبدعنا من محيط بيئتنا في قوالبهم التي صاغوها.
وأما القول بأن المقامات وغيرها من النثريات هي الأشكال الأولى لفن الرواية والقصة القصيرة ولنا الأسبقية في ذلك، فهي من الأقاويل التي لا تلقى لدي قبول ولا قناعة وهي من تبعيات ضعفنا الحضاري والثقافي الحالي، أن نحاول أن ننسب كل منجز ومكتشف قام به الآخر ونرده إلى أن أصوله كانت عندنا، هذا أمر أتفهمه في هذا الإطار من تردينا الثقافي والحضاري.
فن الرواية والقصة القصيرة كما عُرفت في بلادنا في أوائل القرن الماضي وحالياً هي كما أسلفت نتاج ثقافي إبداعي أدبي غربي بالكامل وكلما جددوا في شكل الرواية والقصة القصيرة إتبعناهم، وكلما خلقوا بناءً سردياً جديداً قلدناهم فيه، فلم أسمع أن عربياً حتى بعد أن قمنا باستيراد هذا اللون الأدبي من الغرب أن أضاف إليه الجديد، ولكنه أخذ القالب الآتي من الخارج كما هو ووضع فيه بضاعته وهو أمر لا يعيبنا، شأننا في ذلك شأن أمم أخرى تفعل مثلنا وأبدعت في استخدام هذه القوالب.
إن قال أحدهم أني أقسم لكم أن الشمس تشرق ولا تغرب، هل يغير ذلك من حقيقة أن الشمس تشرق وتغرب؟!، ستظل وفق القوانين الطبيعية التي سنها الله سبحانه وتعالى تشرق وتغرب، أن يغالي أحدهم ويقول اللغة مقدمة في فن الرواية والقصة القصيرة على المحتوى نفسه، أو أنها تساويه، أو تعلو عليه، هل جزمه وقسمه وإحمرار وجهه يجعل الحقيقة تتغير؟، ستظل الحقيقة كما هي!
لكم نصحت في منشورات سابقة نفسي والآخرين إن أرادوا أن يرتقوا بأسلوبهم الأدبي عليهم أن يقرأوا القرآن كثيراً، ففيه من البلاغة ما يكفي ويفيض لأن ترتقي بأسلوبك الأدبي في كتابة الرواية والقصة القصيرة، وأن يقرأوا الكثير من الشعر وأن يقرأوا المقامات وكتابات المنفلوطي والرافعي ومن على شاكلتهم حتى يرتقي أسلوبهم الأدبي.
ما قرأت مقال يغالي في الدفاع عن اللغة العربية إلا وكتب موضوعاً تعبيرياً جميلاً ينبري فيه للدفاع عن اللغة وكأنها أختُطفت أو اغتصبها أحدهم على قارعة الطريق!، وللأسف من الأخطاء التي نقع فيها ولا استثني نفسي من هذا الأمر، أنه كلما اختلفنا نلجأ لسلة جاهزة عامرة بالاتهامات المقولبة ونظريات المؤامرة، حقاً، كفانا من هذا العبث ونظريات المؤامرة السخيفة، هذه آفة عامة في أي مجال أخفقنا فيه، أشرنا بأصبع الاتهام للمؤامرة، " أمريكا – إسرائيل – الغرب الاستعماري"، إن ضل منا الطريق فلتستيقظ نظرية المؤامرة فوراً لتكون المشجب الذي نعلق عليه كل إخفاقاتنا وفشلنا وتردينا، حقاً كفانا، طفح الكيل من المؤامرة والغرب، إن كان فينا عيباً فالعيب منا وليس من غيرنا، فلنصارح أنفسنا وكفانا تعليق بلوانا على غيرنا.
ومن خالف المغالين في اللغة فيما ذهبوا إليه، يتهموا مخالفيهم بأنهم خاضعون لنظرية مؤامرة الاستعمار الغربي الذي يريد أن يفعل بنا كذا وكذا وكذا، ليس كل من خالف الغلو في اللغة أصبح عدواً للغة العربية يريد بها الذل والعار والهوان، وأنه يتبع مخططات الغرب عن قصد أو بجهل، كما أنه من فرط حماستهم يسيئون أشد الإساءة إلى قامات عالية من الأدباء، لن أقول لهؤلاء: أفعلوا ما فعلوا ثم أروني عوراتهم، لن أقول ذلك ولكن لا تدفعكم الحماسة إلى المغالاة والتطرف.
لن أرد على نظرية المؤامرة هذه، لأنها من فرط سخافتها فأني أنأى بنفسي عن الخوض فيها، وليس معنى رفضي للمغالاة في اللغة أن أقول يجب أن تخلو النصوص الأدبية من التشبيهات والصور الجمالية والاستعارات وما إلي ذلك، ولكن أن نغالي فيها ويكون محور اهتمامنا وأن يتم تقديمه على محتوى العمل نفسه هو الغلو، هو من قبيل الاستعراض اللغوي، كأنك أنزلته مقاماً ليس مقامه، تتساوى اللغة والمحتوى في الشعر والخواطر النثرية ولا يستويان أبداً في فن الرواية والقصة القصيرة، وغلو اللغة لمن يغالون ليس دليلاً أبداً على أن هذا هو الأصل وأن من تخففوا من هذا الغلو يحسبون أن ما يكتبوه من الفصحى وما هو من الفصحى بشيء، لماذا المغالاة بالله عليكم؟، ليست بالمغالاة يكون السبيل للدفاع عن اللغة العربية، فلتجزموا وتقسموا وتغلطوا في الإيمان أن ما نكتبه ليس من الفصحى بشيء وتظل الشمس تشرق وتغرب!، لن تتوقف عن فعل ذلك!
إن أردت أن تغالي في استخدامك للغة فلتفعل، إن أردت أن تقدمها على المحتوى فلتفعل، أن أردت أن تقوم بحشو نصك الروائي أو القصصي في كل سطر بصور جمالية وبلاغية فلتفعل، هل رفضي سيمنعك؟!، أنت بالنسبة لي تغالي نعم، ليس حشوك لنصك الروائي أو القصصي بغريب الألفاظ والمستوحش منها هو الدلالة على قوة اللغة، "وإن قلت أنت: يحسبون أنها من غريب المفردات لضعفهم اللغوي فهذا قولك مردوداً عليك"، يمكننا أن نظل لمنشورات طوال تقول ذلك وأقول لك ما عليَّ مما تقوله، الطعن في فصحى أخرى لا تروقك ليس السبيل للإقناع، أما أن ترفضها وكفى سيكون أفضل بالتأكيد، فلتغالي في اللغة، فلتغرقها فيما شئت من ألفاظ وضع لي معجم صغير في هوامش النص يشرح لي هذا المرادف، فلتفعل ذلك، من سيمنعك؟ ولكن يبقى أن الشمس تشرق وتغرب وما تحشره حشراً في النص من غريب الألفاظ والمستوحش لا هو أصل ولا فرع ولكنه غلو وفذلكة لغوية وهو بالمستحدث الطاريء، ولكن حتى هذا لن يمنعك فلتتفضل وتفعل، من منا سيقيد يديك عن الكتابة على هذا النحو، سأظل أرفض هذا الأسلوب الأدبي المتكلف وسأطلق عليه غلواً وستظل تكتب به وتشهد له بأنه العربية الحق، ولن يتغير من أمري أو أمرك شيئاً.
دعني أخبركم بتجربتي مما قرأته لهؤلاء الذين يحشون نصوصهم حشواً بهذه المفردات وتلك التراكيب اللغوية المعقدة والإكثار من الصور الجمالية المختلفة، والله ما وجدت حتى فيما قالوا أنه إبداع أي إبداع!، والله أنهم خروا صماً بكماً عمياً على تراث آبائهم ينهلون منه كما هو حرفاً بحرف، كلمة بكلمة، سطراً بسطر، يضعونها كما هي بغير تغيير أو تبديل أو تحريف، كما هي!
ثم يأتون ويتابهون وينفخون أوداجهم قائلين: هذا ما صنعنا، أرونا ما صنعتم، يا أخي أمرك عجيب، أنت نسخت، ما أبدعت!، أنت تنسخ ممن أبدعوا قديماً، ثم تكذب فتقول هذا إبداعي فأروني إبداعكم، على الأقل أنا لا أنسخ من سبقني، أحاول أن أجدد وأقول أني أفشل وأحياناً لا أأتي بجديد، ولكني أحاول.
أنت تمسك كتاباتهم التي أبدعوها ثم تهزها هزاً لتسقط حروفها في ورقك هذا كما هي بدون زيادة أو نقصان وتقول فلتنظر إلى إبداعي، بالله عليك أتصدق نفسك حين تقول ذلك؟!
كتابات الأقدمين نقرأها لنرتقي أدبياً لا لنحاكيها، أما أن تحاكيها وتنسخها بمهارة ومن ثم تقول لي هكذا تكون اللغة؟، والله لو الأمر كذلك، فهنيئاً لك ما فعلت، فأنا من أنصار نظرية المؤامرة الغربية !
هل المغالاة في اللغة هو مقام الرواية والقصة القصيرة؟، زخرفة الكلام والمبالغة فيه وتقديمه على بناء الرواية ذاته، والله من صنعوه لم يقولوا بذلك، إن لويت أنت عنق الحقيقة وقلت بل هي كذلك، حسناً، تظل الشمس تشرق وتغرب! وإن أقسمت مئة مرة أنها تشرق فقط!
نعم المغالين في اللغة هم رد فعل طبيعي أتفهمه في إطار أنه تصادم حتمي مع أصحاب الأساليب الأدبية الركيكة، أصحاب الأساليب الأدبية الركيكة أصبحوا أكثر ممن يحسنون الكتابة بأسلوب سليم، فخرج المغالين في الكتابة الذين يزعمون أن المغالاة هي الأصل وأن محاكاة الأقدمين هو الحق وحده، فهي رد فعل كما قلت على أصحاب الأساليب الأدبية الركيكة، فتبارى المغالين فيما بينهم أيهم يحشو نصه بألفاظ مستوحشة أكثر، أيهم ينهل من صور جمالية وتشبيهات الأقدمين أكثر من الآخر، أيهم يعلو على أخيه في نسخ تركيب لغوي معقد أكثر من الثاني، فيصفقون لبعضهم البعض قائلين: أنظر يا فلان، أدركتك ومضيت قدماً عنك، لقد حشوت نصي بمئة لفظ غريب، هل تستطيع أن تصنع مثلي؟
فئة كبيرة منهم ولن أقول كلهم يقدمون اللغة على محتوى النص الروائي أو القصصي لموارة عوار المحتوى، والله قرأت قصة قصيرة كاتبها يسجع فيها الجمل!، أي خبل هذا؟، فلتقل ما تقول عن نظرية المؤامرة على اللغة، أقول لك أي خبل هذا؟
والله ما وضعوا صورة جمالية أو تشبيه إلا وقرأت مثله عند المنفلوطي، الرافعي، الجاحظ، ابن المقفع، عبد الحميد الكاتب، ثم يهزون روؤسهم قائلين: هكذا تكون اللغة، هكذا تُصنع!، أي خبل هذا؟!
أهذا مقام الرواية أو القصة القصيرة؟، يقولون نعم ويتطرف بعضهم أكثر ويقول اللغة مقدمة على محتوى الرواية، يا أخي فلتصنع هذا في نص شعري أو خواطر نثرية فهذا مقامه ولكن ليس مقام الرواية أو القصة القصيرة.
يمكن تطعيم الرواية والقصة القصيرة بالصور الجمالية والبلاغات والتراكيب اللغوية الرشيقة، نعم، بل لابد للكاتب أن يفعل ذلك، ولكن أن نجد هذا محشور حشراً بين كل سطراً وسطر!، هل أنت على ثقة ودراية بأن هذه تعد رواية؟، سيقولون رواية، لا عليَّ أنا مما يقولون فليقولوا إن أرادوا هكذا هي الرواية وما دون ذلك عدم، أقول لهم ما عليَّ من جزمكم وإيمانكم، لن ترهبني إتهاماتهم المقولبة والتي أعرفها كلها سلفاً، لا تحرك في شعرة، فأنا أعلم أنه ليس في مقام الرواية المغالاة في زخرفة الكلمة.
يشترط في الرواي والقاص سلامة لغته إملاءً ونحواً، أن يكون تركيب الجملة سليماً غير مرتبك، والأصل في فن الرواية والقصة القصيرة المحتوى واللغة عامل لضمان سلامة المحتوى، هو كالإناء إن كان مثقوباً تسرب منه المحتوى فلم يبقى للكاتب شيئاً ليقدمه، أما أن أبهر عيني القاريء بالإناء وزخرفته، سأقول لك أحسنت، مثلك مثل "الصانع" يحسن زخرفة إناءه، مهنة توارثها عن آباءه، وتعلمها منهم فنسخ مثلهم، أما أن يبدع من مخيلته زخرفة أخرى فهو عاجز، وإن قلت له دعني أنظر داخل إناءك المزخرف بعناية عما يحويه فأجد نقطة من ماء في قاع الإناء!
اهتم بالشكل على حساب المضمون، صرف وقته في زخرفة الإناء ونسيَّ أن يصب فيه حتى الماء!، أقول لك: يكفي الكاتب سلامة لغته ليولي عنايته للمحتوى، ليس مطلوباً من الكاتب المغالاة، إن أردت أن تحشو نصك الأدبي بالصور الجمالية والبلاغات والاستعارات والجناس والطباق والتشبيهات فهذا مقامه الشعر والخواطر النثرية وأقولها مرة أخيرة ليس مقامه الرواية أو القصة القصيرة وأقول أخيراً إن من أسخف ما سمعت أن يقول أحدهم أن قمة الإبداع هو الرواية الشعرية!، والله ما سمعت أسخف من ذلك.
Comments