top of page
صورة الكاتبمروان محمد

الأدب الواقعي كما أراه


الكاتب مروان محمد عبده
الأدب الواقعي كما أراه

لأني أحب كتابة الأدب الواقعي فأنا دائماً مهموم في كتاباتي بأن يكون أبطال الأعمال أنُاس عاديون جداً، وبعضهم قد يكون أقل من العادي، وقليل منهم المتميز، هذا هو الواقع لسنا كلنا خارقي للطبيعة أو عباقرة أو نجباء أو قادة مميزون، لا يجب أن يكونوا محور العمل، ما أنا بصدد قوله في السطور القادمة ليس دفاعاً عن عمل لي بعينه ولكن شرح لدوافع رسم الشخصيات على هذا النحو في مجمل أعمالي. وأقصد تحديداً روايتي الأخيرة "التربة الحمراء"، عاب بعض ممن قرأوا الرواية أن شخصية فارس بطل الرواية هي شخصية تعتمد على الآخرين في إنجاز فروضها أو ما هي مكلفة به، لن أناقش هنا إذا كان يمثل عيباً أو ميزة لأن في هذا دفاعاً عن العمل، ومن يتصور أن ما سأخطه هو دفاعاً عن العمل، فيكفي أنني ذكرت عدة مرات أنني لا أفعل ولك الحرية في أن يكون هذا رأيك في النهاية. أعتدنا بشكل كبير سواء كنا قراء أو كتّاب وهذا عيب لا نختص به وحدنا ولكن حتى بالنظر إلى السينما الإمريكية سنجد صدى لذلك ونحن إلى حد كبير نقلدهم في هذا الأمر، البطل يجب أن يكون عبقرياً، لديه ثبات انفعالي فريد من نوعه، يدرك ماهية كل الأمور ولديه نظرة استباقية في كل شيء أيضاً، ويسبق الآخرين بخطوات وأعتدنا في أعمال الجرائم أن الجريمة لا تفيد وتفشل في النهاية ولا تنتصر مرة واحدة! وهذا مخالف للواقع تماماً، ففي الغالب الجريمة تنتصر وبخاصة عندنا في مصر! يمكننى القول أني تعمدت أن لا أضع فارس في هذه الصورة العبقرية الفذة الفريدة من نوعها التي تدرك كل شيء كأني أضعه موضع الراوي العليم بكل شيء، المطلع لما وراء الأحداث رغم أني كنت اكتب الرواية مستخدماً نوع الراوي العليم ولكني فضلت مع فارس أن أجعله أحد المحاور المتفاعلة مع الأحداث وليس المطلع عليها أو الكاشف لها أو السابق لها بخطوة أو خطوتين، لا يجب أن يكون هو بنك معلومات متحرك أو أكثر عبقرية من المخططين للجريمة. لمَ لا يكونوا أكثر براعة وذكاء منه؟. هل يجب أن يتفوق عليهم لمجرد أنه بطل العمل؟! أحببت أن أصنع بطل الأحداث شخص عادي واحداً منا، يصيب ويخطيء، يعرف بعض الأمور ويفشل في البعض الآخر، يأخذ بعض القرارات الصحيحة والبعض الآخر يجانبه الصواب فيها. أن يتكل على الآخرين في إكمال فروضه أو مهمته. أن توزع فكرة البطل الأوحد على عدة أبطال ليصنعوا هم في النهاية البطل الأوحد وألا ينفرد شخصاً واحداً في العمل بكل المميزات والهبات والبركات والآخرين مجرد كومبارس يخدموا عليه في العمل كما أعتدنا أن نرى في أعمال كثيرة. الحياة الواقعية التي نحياها لكل منا ميزة يتميز بها، عندما تتضافر هذه الميزات مجتمعة خلف قضية واحدة أو مشروع واحد تصنع المعجزة أما فكرة البطل المعجزة هذه أنتهت تماماً مع إنتهاء عصر الأنبياء، لم يعد هناك الفرد المعجزة ولكن مجموعة من الأفراد يمثلون بتضافرهم معجزة واحدة فقط وقد تفشل هذه المعجزة في النهاية أو تحقق نجاح جزئي، هذا هو الواقع. لا يجب أن يكون البطل شديد الوسامة فارع الطول، رياضي القوام، ساحر الكلمات، ذا كاريزما وقيادي ويجيد عشر لغات حية وميتة ويجيد استخدام كل أنواع الأسلحة كأدهم صبري! نحن نسقط على أبطال أعمالنا صفات وقدرات نعجز أن نتحلى بها في الواقع وطالما أعجزنا الواقع عن أن تجتمع فينا كل هذه الخصال فنسقطها على بطل أوحد للعمل، تجتمع فيه كل هذه الصفات وأكثر لنعوض الفاقد الذي نعانينه في الواقع وبالتالي يحلو العمل للبعض عند قراءته أو كتاباته، بعض منا لا يريد أن يرى الواقع مرة أخرى متجسداً في عمل أدبي بل يريد أن يرى في العمل الأدبي ما لم يستطع تحقيقه في الواقع. هناك ما أريد قوله بهذا الشأن من خلال أعمالي، ليست رسالة أو قضية ولكن هي مبدأ عام تتحلى به أعمالي، حتى في شخوصنا العادية وقدراتنا العادية وبعض المميزات التي تميزنا نستطيع أن نكون إحدى محاور أسطورة تدور رحاها بيننا ونصنع فيها معجزة وإن بدت تافهة أو عظيمة ولكن كشخوص عادية ولا يجب أن نرسم شخصيات أسطورية تناسب ذلك العالم الأسطوري. فارس على سبيل المثال طبيب نفسي، والجرائم لها خلفيات عقائدية وتاريخية، لا يجب أن أرسم البطل بارعاً في التاريخ والأديان حتى يكون الفذ الذي يتمحور حوله العمل ولكن هناك أطراف أخرى تمد له يد العون في هذا الأمر تحديداً مثل الدكتور معاذ وريم وبالمناسبة لا يجب أن تكون ريم صارخة الجمال، فاتنة لأنها ستكون رفيقة البطل لأنه هو نفسه إنسان عادي فبالتالي هي الأخرى عادية في ملامحها. لا يجب أن يتوارى العقيد وراء الكواليس لأن فارس هو بطل العمل، هو أيضاً يقوم ببضعة أعمال مميزة عجز عنها فارس لأن فارس في النهاية إنسان عادي وليس بالبطل الخارق، وأنا أرسمه تخيلته شاب في مقتبل عمره، ولكن لدينا تصور أثير طالما أنه البطل سيكون هناك شرطاً أساسياً مختزن في مؤخرة أمخاخنا أنه متزن غير انفعالي لا يجب أن يتسرع في رد فعله أو يقفز في استنتاجاته، هذا يجلب سخط القاريء، كان يتوقعه فريداً من نوعه حتى لو كان صغيراً في السن أو شاب في مقتبل العمر أو بالكاد هو على أعتاب عقده الثالث، نتغافل وقتها عن مرحلته العمرية ونلبسه ثوب الحكمة والوقار والإتزان حتى يتسق مع صفات البطل الخارق. لا يجب أن يكون الأمر هكذا، يجب عند رسم الشخصيات أن نضع في الاعتبار المرحلة العمرية التي عيناها لشخصية العمل، هذا بُعد هام يجب أن يتم مراعاته عند رسم الشخصية. كلاً منا وأنا منكم عندما كنت على أعتاب عقدي الثالث من العمر لم تكن أحكامي وثباتي الانفعالي أو ردود افعالي كما هي الآن وأنا على أعتاب العقد الرابع من العمر، لابد أنه طرأ علي تغيير كبير في هذه السنوات العشر ولن يكون حكمي ورد فعلي وإتزاني الانفعالي الحالي كما هو بعد عشر سنوات من الآن وهكذا، من لم يتغير تكوينه النفسي والسلوكي عدة مرات على مدار سنوات عمره فهو يعاني من اختلالات نفسية! عندما تكون على اعتاب عقدك الرابع تعتريك بعض الحكمة وترشد سلوكياتك بعض من الخبرة التي اكتسبتها وتكون أكثر تقبلاً للرأي الآخر وتكون أقل تشبثاً برأيك وتتدرج الحقائق في نسبيتها حتى تصبح الكثير من الحقائق نسبية وهذا كله يقودك إلى تعديل سلوكي في أنك تكون أقل تهوراً أقل إندفاعاً أكثر روية. ولكن بما أني أتكلم على شاب في بداية عقده الثالث أو على أعتابها فيجب أن تحكمني وقتها اتجاهه السلوكي كيف سيكون. يجب أن يكون الكاتب واعياً بالمرحلة العمرية لشخوصه عند رسمه لهم، لا يسقط مرحلته العمرية أو انفعالاته هو الشخصية على أبطاله فيكونوا نسخ مكررة من الكاتب نفسه فلا تستطيع أن تفاضل بين هذا وذاك فكلهم لديهم ردة فعل واحدة وحكمة واحدة واتجاه سلوكي واحد.

لذلك جعلت لفارس ميزة وهي قدرته على تجسيد الأحداث التاريخية كمشاهد سينمائية وقدرته على تخيل ما حدث في مسارح الجرائم المختلفة، ذكاء طبيعي يتأتى لأي شخص في استنتاج بعض الأمور ووضع بعض التخمينات ومن الطبيعي أن يخطيء بعض الشيء في استنتاجته ويوفق في البعض الآخر، في أن يكتشف أخيراً الرأس المدبر لكل هذه الأحداث. وضعه في إطار أنه ملم بكل المعلومات التاريخية والعقائدية وقادر على الاستنتاج واستباق الأحداث والكشف عن الشخوص الغامضة التي تسّير هذه الجرائم وأن يفلح في الإمساك بالمجرم في الوقت المناسب، الحقيقة أن هذه أمور لا نراها إلا في الأفلام فقط! من الجائز جداً أن ينجح القاتل في إنفاذ كل جرائمه دون أن يتم الإيقاع أو الإمساك به، قد تفشل الأجهزة المعنية أو بطل القصة في الإمساك به قبل إرتكاب مزيد من الجرائم، أو ربما تفشل أيضاً في الإمساك به حتى بعد أن يتم كل جرائمه. وينتهي العمل وقد أفلت، هذا يحدث في الواقع وبشكل متكرر والذي يحدث في الواقع بشكل استثنائي هو ما يتكرر دائماً في الأفلام باعتباره المرغوب والمطلوب الذي نفتقده في الواقع فيستنكف البعض من أن يتكرر هذا الواقع مرة أخرى في الروايات والقصص والأفلام !. نريد في الروايات والأفلام ما عجزنا عن تحقيقه في الواقع. هذا ليس دفاعاً عن العمل مرة أخيرة ولربما كان البعض محقاً في رأيه أن فارس لم يكن على المستوى المطلوب للأحداث وأنه شخصية إتكالية، هذا تأويل القاريء وإن كان يرى فيه أكثر من ذلك ولكن هذا المنشور لشرح دوافع الكتابة ورؤية معينة في الكتابة قد يستثيغها بعض الكتّاب والبعض الآخر لا، هي مجرد رؤى ونظرات مختلفة لكتابة عمل أدبي، ولا يجود الجزم أو الحكم القاطع بشأن عالم الأدب، ومن يضعون أحكاماً قاطعة جازمة بشأن عالم الأدب هم كمن يرى بعين واحدة، لا فائدة ترجى منه لأنه حصر عالم الأدب في الزواية التي يرى منها فقط.

٢١ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page