top of page
صورة الكاتبمروان محمد

مصطلحات خداعة في عالم الإبداع


الكاتب مروان محمد عبده
مصطلحات خداعة في عالم الإبداع

سأحاول أن أجعل حديثي بقدر المستطاع مرتباً، دعنا بداية نتكلم عن فكرة خداعة سأعتبرها توطئة لهذا المنشور وهي كالآتي:

الموهبة – الوحي – الإلهام – جنون الفنان – الطريقة البوهيمية للفنانين – العزلة ...ألخ.

هناك فئة ما في وقتٍ ما "وهذا الرؤية انسبها إلى نفسي حتى لا يسألني أحد عن المصدر" قررت تروج لعدد من المصطلحات المطاطية الخداعة جداً ورسمت صورة فانتازية براقة لشكل الفنان كيف يجب أن يكون؟!، وهذا أرجعه لسببين:

1- هناك فئة تستفيد من وراء ترويج هذه الصورة الفانتازية مادياً لأنهم يتاجرون بالفن.

2- هناك فئة أخرى تواري ضعفها وضحالتها الفكرية والمهارية وكسلها وراء هذه الفكرة الفانتازية البراقة جداً.

فلنأخذ على سبيل المثال فان جوخ "وليتحفز القاريء ويسأل من أنت لتعيب في فان جوخ، ولكن لا بأس إن قرأت للنهاية"، طبيعياً جداً في العصر الحالي عندما نأتي على ذكر فان جوخ أن نقول أنه فنان عظيم ورائد للفن التاثيري الانطباعي الخزعبلي اللوزعي...!

بداية هو شخصية حقيرة جداً وكان فاشل فنياً " كأني أسمع أحد القراء يقول هو من أنصار مبدأ خالف تعرف، لا بأس فلتكمل قراءة"، وقبل الخوض أكثر في سيرة هذا الشخص أحب أن أنوه أنه لدينا في مجتمعاتنا الشرقية تحديداً آفة مفزعة وهي التابوهات، أياك وأن تحطم التابوه أو تتحدث عنه.

المتدنيين الأصوليين يفعلون ذلك.

الليبرالي والعلماني والمثقف أيضاً يفعل ذلك.

كل هذه الفئات في مجتمعاتنا العربية لديهم مجموعة من التابوهات التي تمثل خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه أو النقاش حوله.

لماذا هذه التوطئة السريعة والخروج من سيرة فان جوخ لرصد هذه الظاهرة الاجتماعية؟، هي محاولة مني لتحطيم فكرة التابوهات لديك عزيزي القاريء وأن تتحرر من أسرها لتقرأ معي بموضوعية سيرة فان جوخ وهي كالتالي: فلقد كان يعمل عند ابن عمه "تقريباً" في محل لبيع اللوحات والإنتيكات، وقد شاهد ابن عمه هذا فان جوخ يحاول تقليد اللوحات التي تباع بالمحل، يحاول فيفشل فترفق به ابن عمه أو عمه "لا أتذكر القرابة بالتحديد" وأشفق عليه وقرر أن يرسله لإحدى مدارس تعليم الرسم وأن يتولى هو نفقاته التعليمية حتى يتعلم الفن وفق قواعدها وأصولها، الحقيقة أن فان جوخ لم يستطع أن يكمل دراسة عام واحد حتى ومن ثم ترك مدرسة تعليم الرسم!

سيقول البعض لأنه فنان عظيم موهوب يوحى إليه مما يجعل ما يقدمونه في هذه المدارس من السفائف أمام موهبته ووحيه وإبداعه.

أتصور أن عدداً ممن يقرأون هذا المقال سيتعاطفون مع هذه العبارة الأخيرة وأنا أقول باختصار شديد لأنه إنسان فاشل ولا يحبذ العمل وبذل الجهد والوقت، قرر فان جوخ أن يعيش حياة الصعاليك "حياة بوهيمية" ألا يتكسب من قوت يومه ولو كان من خلال بوابة الفن بعد الدراسة والتحصيل، لم يكن هذا هدفه أبداً.

ليست هذه هي نظرة فان جوخ للحياة فهو يريد حياة الصعلكة والتطفل على الآخرين في المال والمأكل والملبس والمشرب والمسكن!، ويتعامل مع الرسم كهواية، كشيء يسد به أوقات فراغه في عالم الصعلكة، يرسم بشكل طفولي والذي أطلق عليه فيما بعد "إبداع" وما هي إلا حصيلة اللاتحصيل واللاتعليم، يرسم بشكل طفولي بدائي لأنه لم يتعلم، هذا هو ما في الأمر.

وحتى علاقاته الجنسية مع النساء كانت تتم مع أرخص العاهرات وأدناهم لأن البعض يعطيه هذا الجنس بلا مقابل، حتى في حياته الجنسية يتطفل على العاهرات الرخيصات، حياة في منتهى القذارة والتي لم تثمر أي جهد أو إبداع حقيقي، جل ما فعله أنه سد أوقات فراغه برسومات طفولية بدائية تفتقر إلى التعليم والقواعد والأصول.

ولكن تم إعادة إنتاج ورسم لحياته الصعلوكية القذرة التي يستنكف أي شخص سوي من صاحبها ويزدريه لتكون حياة مثالية، تناسب أصحاب العقول المبدعة الموهوبة التي يوحى إليها، أصبحت هذه هي صورة الفنان المثالي المبدع الخارق للعادة، تم تسويق هذه الحياة السلبية القذرة على أنها حياة مثالية لا يحظى بشرف معايشتها إلا العباقرة والمبدعون.

من رسم هذه الصورة المفبركة المزيفة واستطاع زرعها بمهارة وحرفية عالية في العقل الجمعي للإنسان.

تجار الفن الذين استفادوا لاحقاً من بيع لوحات فان جوخ بأسعار فلكية ولم يستفيد هذا الصعلوك بأي مليم في حياته من لوحاته الطفولية البدائية هذه.

دعنا نخوض في مسألة تجار الفن هذه أكثر ونطرح السؤال الأهم، إذن لو أنت عزيزي القاريء أسلمت بأنه إنسان حقير معدوم الموهبة لا يفقه في الفن شيئاً، كيف بيعت لوحاته فيما بعد بملايين الدولارات.، ولكن دعني قبل أن أجيبك على هذا السؤال أن أبادرك بسؤال آخر وأسألك: وهل حدث هذا على عين حياته؟، لا، لم يحدث ولكن بعد أن مات وبسنوات طويلة، إذن هذا يدفعك عزيزي القاريء لأن تسألني سؤال آخر: هل كان هناك فنانين تشكيلين آخرين معروفين ومشهورين؟، أجيبك وأقول: بالتأكيد ووجود فنانين تشكيلين في عصره مشهورين عاشوا وتكسبوا من فنهم بل واغتنوا منه لهو أكبر دليل على أنه معدوم الموهبة ولو كان في مثل قدراتهم وبذل ما بذلوه من جهد وتعب في الدراسة والتحصيل لكان ملكاً متوجاً مثلهم.

إذن فليكن سؤالك الثالث عزيزي القاريء وكيف اشتهر إذن بعد موته وبيعت لوحاته بملايين الدولارات؟، إذن دعني أذكرك مرة أخرى بتجار الفن، هم فقط المستفيدين الوحيدين من تربح ملايين الدولارات، تذكر: فان جوخ لم يكسب قرشاً، فقط تجار الفن.

وهذا يعود بنا إلى فترة الثورة الصناعية في أوروبا ورفض المسيحية وهدم الكنسية معنوياً في نفوس الأوربيين والثورة على كل الثوابت التي كانت موجودة حينئذ ومنها الفن التشكيلي، كانت أحد الأوجه التي تأثرت بموجة التمرد على كل الثوابت.

هذه الموجة من التمرد التي اجتاحت أوروبا استفاد منها تجار الفن للتأسيس إلى اتجاه فني جديد خزعبلي ليس له وجود، هم من اخترعوه وروجوه على أنه حقيقة راسخة كائنة بالفعل، استأجروا أقلام نقاد الفن ومحبيه المشهورين ليصيغوا عالم وهمي عن مدارس فنية تشكيلية جديدة وجعلوا من روادها الطليعين فان جوخ ومن على شاكلته مثل جوجان ...ألخ.

تجار الفن في هذا الوقت يجب أن ترفع لهم القبعة، لقد روجوا لمنتج لم يكن مطلوباً في السوق وقتها وخلقوا له الحاجة عند المستهلك عن طريق تلك الأقلام المستأجرة ومع موجة التمرد على كل الثوابت والثورة على كل شيء لاقى هذا الأمر رواجاً شديداً.

صيحة جديدة في عالم الفن التشكيلي.

رواد جدد لها لم تسمع عنهم من قبل.

لم تسمع عنهم من قبل لأن الاتجاه المحافظ الظالم "أعلى ممثل له الكنيسة فيما سبق" كان يطمس وجود هذه العقول المبدعة المستنيرة "هكذا أوحوا لنا"

وبالتالي أعمالهم الطفولية، لا تنظر إليها على أنها أعمال طفولية بدائية ولكنها ثورة جديدة في الفن التشكيلي.

نجح تجار الفن في خلق موجة فنية جديدة "وهمية"، جيد جداً.

ما النتائج المترتبة على خلق هذه الموجة الفنية الجديدة؟

خلقت الحاجة عند المستهلك.

أحسنت، أصبحت هناك حاجة ملحة لمنتج وهمي، قيمته الفعلية صفر ولكن مع الترويج والدعاية والبروباجندا، أصبحت له قيمة سوقية مفتعلة تحولت مع مرور الوقت لقيمة فعلية مطلوبة بفعل البروباجندا الإعلامية الواسعة.

فلنبدأ ببيع المنتج الوهمي الذي خلقنا له حاجة عند المستهلك!

ومن ثم انبرت تلك الأقلام المستأجرة لرسم صورة خيالية لشكل الفنان التشكيلي بعد الثورة الصناعية، كانت أرضهم الخصبة لهذه الصورة الجديدة من حياة الصعاليك أمثال فان جوخ، يجب أن يكون الفنان التشكيلي والمبدع عامة كالتالي:

هائم وشارد دائماً، يجب أن يقوم بأفعال حمقاء وخرقاء، لا تدل على الخرق والبله ولكن هي انعاكس للعبقرية، هل رأيت كيف تم التلاعب بالمصطلحات وتزييفها وإلباسها تعريفات جديدة، البله الذي تتصور أنه بله ليس بله ولكنه صورة من صور العبقرية، يجب أن تختزن هذا التعريف الجديد في ذاكرتك.

فبالتالي الفنان الحديث يجب أن يكون هائماً في الطرقات لا يعمل وأهم فكرة براقة بعد هدم الدين في أوروبا بما أن الدين هو الذي يمثل الوحي والإلهام، يجب علينا أن نستعيد صورة الوحي والإلهام البراقة في العقل الجمعي ونميز بها الفنان الجديد، نهب هذه الميزة البراقة الفانتازية للفنان والمبدع، لأن العقل الجمعي لازال متمسكاً ببريق فكرة الوحي والإلهام ونحن لن نحرمه منها وسنجعلها إحدى مزايا الفنان والمبدع، سنستبدل الأنبياء والقدسين الذين يتنزل عليهم الوحي والإلهام بالفنان الحديث بعد الثورة الصناعية، صورة ذلك الفنان التي خلقناها من عدم عن طريق أقلام الفن المستأجرة.

تم تخليق عقل جمعي جديد، وعي جمعي جديد سيعمل كحائط صد مستقبلاً لكل معترض على هذه الصورة المبتذلة الخزعبلاية للفنان والمبدع، سنثبت عدد معين من الكلمات تحيط كهالة مقدسة بالفنان كالإلهام والوحي، وبالتالي العقل الجمعي من وراء ذلك بدأ يردد نفس الكلمات: وحي – إلهام!

محاولة نجحت جداً في إعادة رسم العقل الجمعي للإنسان، عملية إعادة تعريف مزيفة للمصطلحات مرة أخرى. إذن الرسومات الطفولية البدائية الساذجة لفان جوخ، ليست رسومات طفولية ساذج ولكنها ماذا؟... نعم وحي وإبداع وإلهام وتجديد، فلتردد ذلك عزيزي القاريء وعليك أن تقنتع به وإلا تناقشه أبداً، وإلا أنت بذلك تغرد خارج السرب وبالتالي ستصبح منبوذاً.

من هي الفئة الأخرى المستفيدة من هذه الموجة الجديدة التي أسس لها تجار الفن عن طريق الأقلام المستأجرة؟

فئة معدومي الموهبة والإبداع فعلياً، هم ثاني فئة مستفيدة من هذه الموجة التي صنعها تجار الفن، تلقفوا هذه الفكرة وتقمصوها جيداً وبرعوا في تقصمها حتى تبرر منتجاتهم اللافنية وتلبسها ثوب الفن والإبداع، ليطرحوا على الناس منتجهم الضعيف المهتريء السطحي على أنه صيحة جديدة في عالم الفن، هم فئة لا تريد أن تبذل أي مجهود في دراسة الفن وكيف يتم مارسته وفق القواعد والأصول، يريدون بأقل مجهود أن يبيعوا أكبر عدد من اللوحات المخرفة على أنها إبداع حقيقي وسيكون حائط الصد للمهاجمين والمعترضين، كلمتين براقتين: (وحي + إلهام).

هذه الفئة المدعية للفن للأسف تضخمت للغاية في العقود التالية على الثورة الصناعية وأصبح لها حيز وجودي واسع جداً حول العالم وتجتذب ملايين المريدين، فبالتالي أصحاب الفن الحقيقي مضطرين أسفين إلى الانخراط في هذه الموجة الجديدة وتقمصها حتى لا يلفظهم العالم خارجه.

ولكن هل حدث أن الفئة الموهوبة المبدعة التي تمارس الفن على قواعد وأسس، أنها تعرضت بالفعل للطمس التام والذوبان في موجة التجديد المزعومة؟

هذه الفئة معدومة الموهبة والإبداع تضخمت في أوروبا، ولكن فئة الفنانين الجادين الذين يبذلون الكثير من الجهد في سبيل تقديم فن تشكيلي حقيقي كانت لها مكانتها أيضاً، لم يتم إزاحتها بالكامل وأصبح هناك خطين متوازيين في العالم الغربي للفن الحقيقي والفن الذي هو صنيعة تجار الفن.

في عالمنا العربي فكرة الفن البوهيمي الذي روج له تجار الفن في أوروبا عقب الثورة الصناعية تضخمت عندنا وأصبحت هي الأساس ولم تسير بالتوازي مع الفن الحقيقي ولكن أصبح الفن الحقيقي مجرد تراث بالي لم يعد يصلح هذه الأيام.

إذن فكرة الفنان بشكلها الحديث الذي تم تخليقه من قبل تجار الفن هي فكرة مثيرة رائعة، أفضل ألف مرة من فكرة الفنان الذي يجد ويجتهد ويقلد وينسخ ما أمامه من لوحات فيفشل حتى يحسن الأمر وتتكون لديه المهارات الفنية اللازمة لأن يصنع مستقبلاً لوحاته الخاصة ولكن ذلك يتطلب جهد ومشقة ووقت طويل ورسم ومن ثم مسح كل ما رسمه ثم إعادة رسمه مرات ومرات حتى يجيد الأمر، ومن ثم يتألق ويبدع فنياً.

تبدو هذه فكرة سخيفة واقعية جداً، شاقة تستلزم الكثير من الوقت والمجهود ولا إثارة فيها، فكلنا نعلم أن الثمار لا تجنيها إلا من بعد زرع وحصاد وتعب، أما الفكرة الأخرى فانتازية رائعة جميلة، الفنان هنا يكون مكان النبي والقدسين، يصنع المعجزات مثلهم بفرقعة من أصبعيه، لا يبذل الكثير من الجهد والوقت ليتقن ما يصنع، فقط يرتعش جسده لبضعة دقائق وتنتابه قشعريرة باردة ويتلوى في الأرض لدقائق أخرى ثم يشرع في رسم لوحات رائعة عظيمة ستتمزق أكف الناس من كثرة التصفيق لها وكل هذا الأمر لم يستغرق سوى بضع ساعات وليس أياماً وشهوراً وسنيناً.

لا يمكن أن نكذب وحي الأنبياء وبالتالي لن نكذب أيضاً وحي الفنانين وإلهامهم، وكذلك وحي الكتّاب والمؤلفين، يتفصد جبينه عرقاً، ويغمض جفنين مرتعشين ثم يشرع في كتابة رواية رائعة بل هي ملحمة خالدة !

لماذا؟

تذكر أيها القاريء العزيز، نحن نزرع في رأسك فكرة مختلفة، ما تراه أمامك ليس من قبيل الخرف أو الهزل ولكن هذا يحدث لأنه يوحى إليه ويأتيه الإلهام.

إذن تم زرع في وعيي الشخصي ووعيك عزيزي القاريء فكرة أشبه بالقلعة الحصينة قادرة على أن تدافع عن نفسها بقوة وتسحق كل ما عداها، سنرددها جميعاً لأننا من ضمن السرب، من ضمن القطيع.

إذا سمعت عن كاتب كتب عشرة أعمال أو خمسة في عام واحد، ماذا ستقول؟

مبدع "ها، تذكر، ماذا أيضاً؟" يوحى إليه "رائع، أنت تبلي حسناً وماذا أيضاً؟" يأتيه الإلهام "رائع وهل لديك إضافة؟" موهوب بالفطرة " أحسنت، مبروك أنت أصبحت عضو مميز في القطيع!"

إذا أطلعت على عملاً ما عزيزي القاريء ووجدت ما هو مكتوب غث وهراء، كيف سيكون رد فعلك على هذا، هيا أخبرني؟

يا سيدي هذا ليس غثاءً وهراءً كما تقول ولكنه إبداع من الكاتب، فهو لا يتحكم بقلمه ولكن القلم يسيره ويدفعه للكتابة بجنون وإذا فرغ الكاتب لا يكون واعياً بما كتبه ويعيد قراءته كأنه يقرأ لغيره وهذا بسبب الإلهام والوحي.

أريد أن أصفق لك عزيزي القاريء، أبدعت في الرد، أنت خير ممثل بالفعل للقطيع الذي تم إعادة صياغة عقله الجمعي، أنت مميز فعلاً.

عزيزي هذا هو ما يريدون أن يخدعوك به، إذا رأيت شخصاً ما غزير الإنتاج فهذا من قبيل الإبداع والوحي والإلهام، وإذا رأيت كتابة عبثية فهذا من قبيل الإبداع والتجديد في الكتابة والتجريب، هم خربوا وزيفوا وعيك وأنت وافقت على كل ذلك بإريحية ولم تكتفي فقط بالموافقة ولكنك أنبريت أيضاً للدفاع عن هذه الفكرة و مستعد للموت في سبيلها، تحولت لديك لواحدة من التابوهات التي لا يمكن إسقاطها أو مناقشتها حتى!، لقد أضحت عقيدة أخرى تضاف إلى عقائد أخرى تؤمن بها.

وأصبحت تراها كحقيقة راسخة مسلمة لا تقبل النقاش أو الجدل، مع أنها تم تخليقها من فترة قريبة ولكن لا بأس فنحن البشر سريعي النسيان، سننسى الحقيقة الأخرى وسنتقبل هذه الحقيقة الجديدة التي تم تصنيعها بالكلية!

أصبحنا نفسر الكتابة المهترئة بأنها وحي

أصبحنا نفسر الركاكة اللغوية بأنها إلهام

أصبحنا نفسر الإسهال الكتابي بأنه غزارة في الإنتاج.

أصبحنا نفسر الكسل العقلي والذهني في الكتابة بأنه شغف الكتابة.

نعم تم إعادة تعريف كل هذه المصطلحات لإخراجها من إطار السلبية إلى إطار الإيجابية واستبدالها بمصطلحات أخرى أكثر بريقاً وأكثر استحساناً لدى المتلقي.

بالإضافة إلى أنه تم ترسيخ عدد من التعريفات المتصلة بالفنان الفانتازي هي في ذاتها ماورائية للغاية ولكن لوقعها بريق ومثيرة للنفوس وترسم صورة حالمة يطوق إليها أي إنسان، على سبيل المثال لا الحصر:

غزارة الإنتاج عنده نتيجة لحب وشغف عظيم بالكتابة "أحفظ هذا التعريف جيداً فهو الرد المانع القاطع أمام أي مهاجم"

أن موهبته تتحكم فيه وليس هو من يتحكم فيها، إرادته الذاتية وقتها تكون خاضعة لإرادة خارجية " يقصد بها الوحي، كلمة براقة...تابع" فلذلك هو مجبر على الكتابة على هذا النحو، الكاتب لا يتحكم في قلمه.

هل ترى جمال التعريف وكيف أن له رونق خاص، بالله عليك ألم تنتشي وتأخذ نفساً عميقاً بعد قراءة هذا التعريف؟، ألم تشعر وقتها بأنك وصلت إلى هذه الدرجة الحالمة من الإنسان الكامل الذي نصبو إليه، لأن هذه الفكرة خلابة فنحن نتمسك بها حتى لو كنا على يقين بزيفها ولكنها فكرة مثيرة لأن بديلها الواقعي مرهق ومتعب ولا إثارة فيه.

إذا أخبرتك هذه المرة عزيزي الكاتب أنه حتى تكتب أول قصة لك وليس أول رواية قصيرة حتى ولكن لتكتب أول قصة قصيرة يجب أن تكون قرأت على الأقل خمسين كتاباً.

بذلك أنا حطمت لك الفكرة الجميلة البراقة عن الشخص الموحى إليه، الذي يأتيه الإلهام من حيث لا يدري، الذي ينتشى عند الكتابة وهو لا يدري كيف ولماذا يحدث له هذا؟

أما أن أطالبك بالجهد والتعب وأن تمكث لمدة أربع أو خمس سنوات لا تنشر ما تكتبه وتعتبره تدريب على الكتابة حتى تصل لمرحلة النضج الفني المطلوبة وهذا يستلزم الكثير جداً من القراءة وممارسة فعل الكتابة والتي هي بالتأكيد ليست من أجل النشر ولكن لعرضها على المختصين ليبدوا فيها آرائهم وسبل تطويرها وتفادي مواطن الضعف فيها ومن ثم تشرع في القراءة مرة أخرى وتدريب نفسك مرات عديدة على الكتابة حتى تصل إلى المستوى المنشود، وبعد مضي خمس سنوات يمكنك وقتها أن تدعي أنك قادراً على الكتابة الحقيقية ومن ثم النشر، هذه فكرة قبيحة واقعية للغاية والواقع دائماً مرير وفيه الكثير من الكد والمشقة والتعب وبالتالي تم تجريد صورة الفنان والمبدع من أي ملمح فانتازي، وتحول الأمر كأني طالب جامعي علي أن أتم دراسة جامعية لمدة أربع أو خمس سنوات قبل أن أشرع في النشر.

هذه صورة مقيتة للغاية، وبالتالي ستقوم بتفعيل الحصن المنيع الذي تم زرعه حديثاً بعد الثورة الصناعية، هذه ليست صورة الفنان المثالي، الفنان موهوب، موهبته كفيلة بمعالجة هذه الأمور كلها دفعة واحدة.

والدي "أطال الله في عمره" خريج في كلية الفنون الجميلة هو والدتي، والدتي قصت لي أنه كان مشهوراً عنه أيام الجامعة أنه الطالب الممحاة، لأنه يمسح أكثر مما يرسم، وكان أقرانه يقولونها على سبيل التندر والاستنكار.

وأنا أقول أن هذا هو الفنان الحقيقي الذي يمسح أكثر مما يرسم.

الكاتب الحقيقي هو الذي يحذف ما يكتبه أكثر مما يكتب.

أن يقرأ أكثر مما يكتب.

معدومي الموهبة المنتسبين للفنون الجميلة روجوا لفكرة أن الفنان الذي يقلد لوحات من سبقوه ليتعلم منها، لا يعتد به فناناً وأن هذا ليس من الفن في شيء، لماذا روجوا لمثل هذه الفكرة؟

لأنهم لا يريدون أن يبذلوا أي مجهود لأنه في حالة تقليد لوحات من سبقوك من الفنانين الجادين هذا يعني أن تستغرق أسابيع وشهور حتى تجيد تقليد لوحاتهم وبالتالي تتكون لديك مهارات الرسم اللازمة لتبدع أنت بعد ذلك لوحاتك الخاصة وسيستلزم منك الكثير من المسح ثم إعادة الرسم لمئات المرات، هؤلاء يريدون أن يضعوا عدة خطوط لا معنى لها على لوحة ما ومن ثم يصدرونها للمتلقي على أنها إبداع ووحي وإلهام.

إن لم يحذف الكاتب مئات المرات ما يكتب ومن ثم يعيد كتابة ما كتبه مرة أخرى ثم يحذفه مرة أخرى وهكذا دواليك مئات المرات حتى يطمئن لما كتب وتستقر نفسه فهو بلاشك يمارس العبث في أجلى معانيه.

هذا الطريق صعب وشاق وللأسف واقعي للغاية وهو أشبه بالتحصيل والدراسة ولكن هذا ما يصنع المبدع الحقيقي وبالتأكيد هي ليست بالفكرة البراقة للعامة أن تخبرهم بأن ما وصلت إليه من إبداع وإتقان هو حصيلة سنوات من الدراسة ولكن البريق والمثير فعلاً للعامة أن تصورها على أنها وحي وإلهام وموهبة.

أنا بذلك أحطم تماماً تابوه الوحي والإلهام، وبالتالي فأني أنفي الموهبة تماماً عن المبدع، إذن بما أفسر الكتّاب الذين ينقطعون مرة واحدة عن ممارسة الكتابة لفترة من الوقت قد تطول أو تقصر ومن ثم يأتيه الدافع للكتابة مرة واحدة فيكتب بغزارة.

بداية بسبب محاولات تزييف العقول وتزييف التعريفات ورسم صور خداعة للفنان على مدار ما يقرب من قرنيين من الزمان، بداية من الثورة الصناعية حتى الآن، غابت للأسف التفسيرات المنطقية الموضوعية للكثير من الحالات التي تصاحب الفنان أو المبدع بشكل عام وأصبحنا نخضعها للتفسيرات اللامنطقية والماورائية التي اعتدنا عليها لقرابة القرنيين كما أسلفت ولكن يمكن إحالة ذلك إلى الحالة المزاجية للكاتب، كما يعتري أي إنسان طبيعي حالات مزاجية تكون طاقته في أدناها وحالات أخرى تنتابه طاقة قوية دفعة واحدة، هي تتبع الحالة النفسية والمزاجية للإنسان والمؤثرات الخارجية من بيئة وعوامل اجتماعية مختلفة، هذا التفسير الذي أميل إليه أكثر بعيداً عن التفسيرات الماورائية.

وأما بالنسبة للموهبة فهي قد أخذت حيز زائف أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، فالموهبة في العملية الإبداعية لا تمثل أكثر من 30% وهي عامل مساعد وليس رئيسياً، أقرب ما تكون لعامل محفز، أن تميل نفسك لشيء دون الآخر فتكون النتيجة المنطقية أنك توليه اهتماماً خاصاً ووقتاً أكثر عن باقي الأشياء التي تحظى لديك بميل أو اهتمام أقل فتبرع وتتميز فيما توليه عناية واهتمام أكبر.

الموهبة أقرب ما تكون لكونها ميل أو اهتمام زائد ولكنها بالتأكيد ليست قوى سحرية، تجعلك تكتسب مهارات من مصادر لادنية!

وأيضاً نتيجة لزرع مجموعة من التعريفات والأفكار والمصطلحات المزيفة لعقود طويلة في عقولنا يمكن القول بأنه غُيب عنا التفسير الحقيقي والمنطقي لهذه الظواهر، لأن هناك مصلحة لفئتين في تغييب التفسيرات الموضوعية والمنطقية لهذه الظواهر.

وكم من أنُاس لا يتمتعون بأي موهبة ولكنهم برعوا في مجال الفن والإبداع نتيجة لاجتهادهم ودراستهم وأيضاً لكل قاعدة شواذ والأحكام لا تبنى على الشواذ من القاعدة، كمثل محاولة تفسير المجيدين لفن الرسم وتكون البيئة المحيطة بهم لا يتواجد بها عوامل تحفزهم على الرسم أو حب الرسم أو الميل نحوه ويبرعون فيها من غير تعلم وكذلك أصحاب الأصوات الجميلة وهكذا وكأن الأمر عبارة عن مجموعة من الجينات تتفجر لدى البعض وتبقى كامنة لدى البعض الآخر، هل تتفجر نتيجة لمحفزات ومثيرات خارجية؟، أم أنها تنفجر من تلقاء نفسها بدون أي محفز خارجي وبالتالي فهي هبة ومنحة من الله، كما قلنا غياب التفسيرات الموضوعية نتيجة لتغييب متعمد للتفسيرات الموضوعية لصالح مجموعات المصالح، يجعل من غير الممكن أن نضع تعريف أو تفسير جازم لهذه الظواهر ولكن ما أنا على يقين منه حتى في ظل وجود الموهبة الفطرية لدى البعض إلا أنها لا تمثل إلا عامل مساعد فقط في عملية الإبداع ككل ولا تتكفل هي بالأمر برمته.


٤٨ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Commentaires


bottom of page