هناك مقولة أدبية اعتبرها على نحو شخصي "
" وإن اختلف معي البعض أو الكل في ذلك وهي مقولة يتم تصديرها عندما يخفق كاتب ما في نشر عمله أو يخفق في إحدى المسابقات الأدبية الجادة، دائماً ما يستحضر نوعية معينة من الكتّاب هذه المقولة كنوع من ميكانيزمات الدفاع النفسي التي يصد بها تلك الصدمة النفسية التي ضربته بقوة.
هذه المقولة هي: اليوم هم يرفضون أعمالنا ولكن غداً سيكون لنا شأناً آخر وسيشار إلينا بالبنان، ولنتذكر كم من كاتب مشهور اليوم وحقق العالمية وبيعت ملايين النسخ من كتبه وقد رفضت ما لا يقل عن عشرين دار نشر أعماله"
مقولة يستخدمها البعض كمرطب يثلج صدره بها وتوقف نفسه اللوامة عن تذكيره بفشله.
ولكن لم يذكر هؤلاء هذا الكاتب الذي رفضت نحو عشرين دار نشر أن تنشر له أعماله، هل كان بالفعل من باب التعسف والرفض المطلق أم كان هذا الرفض مبنياً على أسباب موضوعية ومنطقية وعادلة في وقتها، هذا الأمر لا يذكر على الإطلاق، ألم يكن من المحتمل أن كتاباته في الوقت الذي قدمه فيه لهذه الدور كانت بالفعل طفولية وبدائية للغاية مما استدعى أن يرفضوا النشر له، إلم يكن هذا دافعاً لهذا الكاتب المشهور فيما بعد لأن يّطور من أدواته الكتابية ويتكسب تقنيات الكتابة عن طريق الدراسة والتحصيل والاجتهاد، ألم يسألوا أنفسهم هل عندما رفضت دور النشر أعماله قال غداً سيعرفون قيمتي الأدبية وسيتهافتون وراء طلبي ويرجوني للنشر أم قال لأعرف لماذا رفضوا عملي ولأعمل على تطوير نفسي من أجل ألا يرفضوا مرة أخرى.
نحن إن فكرنا في الأمر على هذا النحو سيبدو طبيعياً للغاية وغير براق بالمرة كقصة إعجازية ترسم مسيرة مثيرة لهذا الكاتب، سيضحى الأمر طبيعياً وروتينياً ومملاً جداً، أنه لم يقبل عمله نتيجة لتواضع كتاباته في هذا الوقت فعمل على تطوير نفسه بالاجتهاد المذاكرة والتحصيل والدراسة فأرتقت أدواته الفنية فأصبح في مرحلة لاحقة مقبولاً وتهافت عليه دور النشر، لو رُسم الأمر بهذه الطريقة سيبدو واقعياً للغاية ونحن أسرى القصص الإعجازية التي تحاكي قصص الأنبياء!
لا أتصور أن دور النشر هذه أخطئت عندما رفضت عمله في بداية مسيرته الأدبية لأنه لربما بنسبة كبيرة كانت متواضعة وبدائية للغاية وطفولية جداً مما استدعى وقتها أن يرفضوا النشر له، لم تخطيء هذه الدور في قرارها ولكن يحسب لهذا الكاتب الذي حصد المجد فيما بعد جده واجتهاده وأنه لم يكتفي بمحصولة الثقافي مما قرأ ولكن نمى محصوله الثقافي بمزيد من القراءة والتهم الكتب التهاماً في شتى مجالات القراءة بدون توقف ومن ثم اندفع ليكتب مرة أخرى فلاحظ فارقاً ضخماً في كتاباته وأخذ بآراء من يثق بذائقتهم الأدبية وصدق نصيحتهم وعلمهم الواسع وعمل بها وكم من مرة مزق ما كتب وأعاد كتابته أو كتب غيره، كم من مرة بدل أفكاره، ربما فعلها مئات المرات.
كم من مرة استعصى عليه الموضوع الذي يكتب فيه ولم يطاوعه قلمه ولما جرب الانتقال إلى موضوعٍ آخر طاوعه القلم وزالت عنه العثرة، لأن في مرحلة تجريب الكتابة يكتشف الكاتب نفسه وتوجهاته والقالب الذي يحب أن يصب فيه عمله.
كم من مئة مرة غير أسلوبه الأدبي وخلط بين أساليب أدبية مختلفة حتى وصل إلى أسلوبه الأدبي الخاص به، هذا الكاتب الذي وصل إلى الشهرة لم يصلها بطريقة إعجازية ولكنه عمل على تطوير نفسه بكثرة التجريب في الكتابة والقراءة المكثفة والأخذ بالآراء المعتبرة ولربما دار النشر التي قبلت عمله بعدما رفضته عدة دور نشر أخرى كانت لترفض أعماله لو كان أتاها من قبل بمستواه السابق الذي دعى الآخرين لعدم قبول عمله.
الفكرة أن هذه الدار كانت باباً مفتوحاً أمامه في مرحلة نضجه الفني ليس إلا، لم تكن دور النشر الأخرى غبية وهذه الدار هي التي استطاعت أن تتبين موهبته وإبداعه، في تلك المدة بين الرفض والقبول لا نعرف كم من مرة تطور هذا الكاتب وارتقى في كتاباته حتى قُبل عمله في الأخير.
وإن احتج البعض بأن هناك من الكتّاب من رفضت دار ما عمله ثم بعد مدة زمنية قد تكون خمسة أو عشر سنوات قبلت دار أخرى عمله أو قبلت هذه الدار نفسها عمله بعد هذه المدة، ليس في الأمر إعجاز أو ماورائيات، أنت لا تعلم عن المسودة الأولى التي قدمها أي شيء وكيف كانت، أنت رأيت فقط المنتج الأخير كيف كان وقرأته في صيغته النهائية، لربما كانت المسودة الأولى طفولية للغاية واستلزم منه الأمر مدة طويلة من الزمن ليطور الأفكار والطرح والمعالجة والأسلوب الأدبي وتقنيات الكتابة حتى يعيد عرض نفس العمل مرة أخرى بعد أن أجرى عليه مئات التعديلات والتنقيحات حتى كان ما كان عليه في مرحلته الأخيرة فقبلته عندئذ دار النشر هذه أو تلك.
البعض الذي يضلل نفسه بهذه العبارات يقرأ من مسيرة هذا الكاتب السطر الأول ثم السطر الأخير فقط، مسقطاً عن جهل أو عمد عشرات الصفحات من التعب والجد والجهد والمذاكرة والتحصيل ومئات التجارب الفاشلة حتى وصل إلي ما وصل إليه بين مرحلة الرفض إلى مرحلة القبول.
هذا الكاتب الذي أصبح مشهوراً لم يكابر كما يفعل العديد من الكتّاب العرب والمصريين في مواقف مماثلة، لم يستنكر رفض دور النشر لعمله بل سعى سعياً حثيثاً لمعرفة لماذا تم رفض عمله وعمل على تطوير نفسه ولم يتبنى موقف الاستنكار ويخدع بنفسه أنهم لم يقدروا قيمته وسيأتي بعد مضي بعض من الوقت من سيقدر قيمته ولا يعمد إلى تطوير نفسه وإلى التحصيل والمذاكرة والدراسة ولكن يجمع بعض الجنيهات ليذهب لدار نشر أخرى على استعداد أن تنشر هرائه ليكذب على نفسه وعلى الآخرين بأن الدار التي رفضت النشر له خسرت كثيراً وها هي دار نشر أخرى تنشر له، هذه النوعية ستظل "محلك سر" لن تتقدم ولو خطوة واحدة ومهما انفقوا من أموال على نشر أعمالهم على نفقتهم الشخصية لن تدفعهم ولو خطوة واحدة إلى الأمام ولكن سيظلوا كما هم لا يقدمون ولا يأخرون، صماً بكماً عمياً فهم لا يفقهون، وأما من تضرب بهم المثل لو كانوا سلكوا مسلكك ما كنت سمعت عنهم ولظلوا مغمورين مثلك ولكنهم تعاملوا مع الأمر بشكل إيجابي واقعي بدون أي إضافة خزعبلية لقصصهم ولكن نحن من نصنع الخزعبلات عنهم لأن هذه الخزعبلات مسكن جيد للغاية لحالة الرفض والاستنكار التي تعتري بعضنا عوضاً عن العمل على نفسه من أجل الإرتقاء بكتاباته فنياً.
وإن كان لديك أمثلة تشذ عن هذه القاعدة فالأحكام والقياس لا يستنبط من شواذ القاعدة ولكن تستنبط الأحكام والقياسات من القاعدة نفسها لأن لا يحكم على الكل بالجزء.
Comments