رواية الخبيث للكاتب محمود الجعيدي ، صدرت عن دار تويا للنشر، تتجاوز تقريباً المئتي صفحة، لدى شروعي في قراءتها أحالت إلى ذاكرتي منشور سابق لي عن أدب الرعب والذي أهاجم فيه كتّاب الرعب في عالمنا العربي أنهم يقومون بنحت ما أنتجه الأدب الغربي والسينما الغربية من أدب الرعب وأفلام الرعب وأنهم لا عذر لهم في هذا النحت غير المبرر وأنه عليهم أن يبحثوا في تراثنا العربي عما يخص حكايات وأساطير الرعب، هل هو مثير إن وجد وكيف يمكن توظيفه في عمل أدبي؟ الحقيقة أن معرفتي بتراثنا العربي من أساطير رعب أو تدور في فلك الرعب هي ضعيفة للغاية وبالتالي لست مؤهلاً بشكل كافي للحكم على مدى مطابقة ما ورد في الرواية من موروثات الرعب مع ما هو موجود في تراثنا العربي في هذا الصدد؟، هل بعد الكاتب عنه كثيراً؟، استلهم منه بشكل جيد، استطاع توظيفه جيداً؟ المهم أن هذا الكاتب وهذه الرواية تحديداً، ربما سبقتها تجارب ولكن بالنسبة لي هي المرة الأولى التي أقرأ فيها أدب رعب حاول كاتبه أن يزرعه في بيئة مصرية عربية خالصة يستمد من التراث العربي والمصري ما يعينه على صياغة روايته. اسم الرواية غير موفق تماماً، وحتى لما انتهيت من الرواية لم أفهم المغزى من الاسم، ولم يوضح لي الكاتب من خلال أحداث الرواية ما العلاقة بين العنوان وموضوع العمل؟، لا بأس، يمكنني التغاضي عن ذلك، الرواية غير مملة على الإطلاق وهي تحسب للكاتب، لن تمل إطلاقاً في رحلة قراءتك للعمل، سيغامرك الشعور بالاستمتاع بالعمل إلى حد معقول، بعض الأحداث قد تخطيء في التنبوء بها والبعض الآخر لأنه تم استخدامها في أفلام كثيرة فيمكنك استنتاجها بسهولة، على سبيل المثال مما يمكنك استنتاجه: كل الهواجس التي داهمت بطل العمل مجدي تعلم مسبقاً أنها مجرد أضغاث أحلام وليست ضمن سياق الأحداث. لم أفهم النهاية الثانية واسميها النهاية الثانية، التي وضعها الكاتب بعد النهاية الأولى التي انتهت بتوديع البطل لراجية الأم وولدها طاهر بعد أن شُفيَ من لبس الجن، يبدو أن الكاتب لم يكن مقتنعاً بهذه النهاية، على نحو ما وجدها لا تكفي، أصابه القلق من كونها تندرج تحت قائمة النهايات السعيدة فأراد على عجالة أن يصنع نهاية أخرى لبطل العمل مبهمة، عبارة عن بضعة أحلام وهواجس تنتهي بصرخته الأخيرة التي تنبيء بأنه شاهد وجه لم يكن يتوقع حضوره، غير مبررة لأنني لم أفهم ما هذا الوجه الذي رآه ودفعه لصرخة الدهشة هذه ! النهاية الثانية تبدأ بطائرة هو على متنها تنفجر في السماء وتدرك أنت خلال هذا المشهد أنه أضغاث أحلام، ليأخذك لحلم آخر مشوه لا أتذكره ثم سينقلك على مشهد أخير لنفس البطل، المشهد عبارة عن هلاوس لا تفهم منها شيئاً، فبدت النهاية الثانية التي وضعها الكاتب لبطل العمل غير مبررة، غير متصلة تماماً بما سبقها. تبدأ الرواية بمشهد عن بطل العمل وهو يستخرج جثة طفلة من ترعة ما، وقد شاهد شبحها أسفل الكوبري وينتهي المشهد عند هذا الحد ليجعلني أنفخ في ضيق، قائلاً لنفسي: أنني بصدد رواية منحوتة من الأدب الغربي ولكن بالفعل ينتهي المشهد عند هذا الحد ولا تجد له أثر إلا في آخر الرواية وكأن الكاتب إذ فجأة تذكر أمر هذه الفتاة الشبحية ليعيطينا فلاش باك عن أن بطل القصة هو من دهسها وهو لم يعطي أي مؤشرات ضمنية حتى في المشهد الأول في صدر الرواية عن ذلك، أما ما علاقة هذه الفتاة في بداية العمل وقرب نهايته بموضوع العمل لا شيء، حاول الكاتب أن يوجد رابط واهي بين هذه الطفلة وبين العمل نفسه بأن عينيها زرقوتين مثل عيني الجثة الزرقوتين التي استخدمها في قتل الجن سوميا!، مما يعطيك في النهاية استنتاج وحيد وهو أن إيراد قصة الطفلة مجزئة على مشهدين في أول وآخر الرواية جاءا بلا معنى ولا رابط بينهما وبين موضوع الرواية نفسه. الرواية بدأت مثيرة جميلة مشوقة في جو صعيدي جميل منذ قرر مجدي أن يذهب بصحبة ولاء إلى قريتها في الصعيد مدعياً أنه زوجها لتبدأ أحداث القصة المثيرة والتي تسير بشكل جميل جداً، أخلف فيه الكاتب توقعاتي عدة مرات، عندما بدأها بأن البطل يكتشف أن شقيق صديقته ليلاً يهبط أسفل أرض المنزل يحفر شيئاً ما فتصورت أنني على موعد مع نحت لمشاهد غربية ولكن يتضح أن شقيق صديقته ينقب عن آثار مصرية قديمة بمساعدة شخص آخر، فبدت الحكاية منطقية لأن هذا عادة يحدث في الصعيد، ثم يختفي آثر المقبرة المصرية القديمة التي كانوا ينقبون عنها بعد أن أشترك بطل العمل في التنقيب فتتصور أننا أمام نحت آخر للعنة الفراعنة ولكن يخلف الكاتب توقعاتي ويستعين بشيخ له باع في إحضار الجن ويضعك في بيئة صعيدية تامة حتى في استحضار الجن إلى آخره مختلف عن جو طقوس استحضار الجن والعفريت في العالم الغربي، ويتلبس ذلك الجني الذي سيساعدهم في البحث عن المقبرة شقيق صديقة مجدي "بطل العمل" ومن ثم يخرج الأمر عن السيطرة ويتحكم هذا الجني في طاهر شقيق صديقة البطلة، وتدور أحداث جيدة في هذا الأطار ثم بدأ يطاردني سؤال وما الذي يجعل بطل العمل يستكمل وجوده في هذه القرية الملعونة على الرغم من عدم وجود أي رابط بين البطل وصديقته سوى علاقة خارج إطار الزواج، وقد بين الكاتب أن البطل غير جدي في علاقته معها ووجدت إن استمراره بعد إنتهاء محاولات البحث عن المقبرة المصرية القديمة وانشغالهم بحالة طاهر بعدما تلبسه الجن قد تدفع أي شخص علاقته هشة جنسية إلى حد كبير بصديقته أن يتركها، فدافع الثراء مضى إلى غير رجعة مع الطاريء الجديد، ولحسن حظي أن الكاتب كان واعياً لهذه النقطة وجعل البطل ينصرف عن القرية ومن ثم يعود إليها بدافع الحب مرة أخرى لتنتهي صديقته نهاية درامية غير موفقة بالمرة أشبه بالأفلام الهندي والمصري المبتذلة، تموت بين يديه، نهاية سخيفة جداً ولكني ابتلعتها ومضيت قدماً في القصة والذي افترضه أنه لم يعد للبطل من داعي للتواجد في هذه القرية ولكنه بناء على وعد قطعه لها قبل موته مضى ليستكمل أحداث العمل جرياً على فكرة "طيب مينفعش ننهي الفيلم دلوقتي، لازم نكمله". وهنا يكمن كل الفخ، الداعي الذي يدفع البطل للبقاء أو الدافع بالنسبة لي ضعيف وواهي خاصة وأن الكاتب صوره على أنه شخص عادي بل انتهازي أحياناً ولا يتحلى بالمباديء والشرف إلى حد كبير فإلزام نفسه بهذا الوعد بدا لي مبالغاً فيه ومحاولة من الكاتب لأن يقول عذراً دعني أكمل العمل فابتلعت ذلك أيضاً ومضيت معه متجاوزاً هذا الأمر ورهنت بقاءه بدافع الحب الذي يكنه لها، لا بأس في ذلك. إذن عليك أن تعوضني بإحداث رائعة أو على نفس الوتيرة التي كانت قبل موت صديقته، وهنا يأتي أكبر فخ يمكن أن يقع فيه أي كاتب أو حتى فيلم، كيف ستحافظ على تلك الروح الشيقة المثيرة إلى نهاية العمل، للأسف من وجهة نظري وقع الكاتب في الفخ، يعود البطل لنفس الشيخ الذي استحضر الجني الذي تلبس طاهر يحاول أن يرغمه على إخراج هذا الجني في حين أنه ذهب له من قبل وتبين من الأحداث أن الشيخ غير قادر على ذلك وينتهي اللقاء الثاني بأن تحدث مشاجرة عنيفة تودي بحياة هذا الشيخ! وهي مشاجرة غير مبررة بعض الشيء، يمكن بلعها فماذا بعد؟ بدون الخوض في مزيد من التفاصيل يتم الاستعانة بشيخ آخر يفشل هو الآخر حتى يأتي شخص ينقذ البطل من هذا المأزق يدين بالفضل لبطل العمل وهنا تنقلب الرواية تماماً مما كانت تسير عليه من خطى واثقة نحو صناعة أدب رعب عربي إلى جو مشحون حتى آخره بأجواء الرعب الغربية، وكأن فرغت جبعة الكاتب من صناعة المزيد من جو الرعب العربي أو أعجزه ذلك التراث العربي عن أن يقدم المثير الشيق فلجأ إلى أجواء الرعب الغربي ليغطي بها الفجوة فكانت كل المشاهد التالية مقولبة أو أقرب للنحت مع محاولات مستميتة من الكاتب تحُسب له أن يخرجها من هذا الإطار. استوقفتني بعض التعبيرات للكاتب التي أراها غير موفقة بالمرة، أذكر منها: الهواء مبتل!، كيف يبتل الهواء؟، كيف يمكن أن أتخيل كقاريء أو أحيل إلى ذهني صورة هواء مبتل!، بالنسبة لي عبارة غير موفقة تماماً وأيضاً يصف جسد صديقته بأنه "جسدها الشاهق العاري"، لا أعتقد وقد يصحح لي اللغويين ذلك إن كنت مخطئاً ولكني لم أهضمها، كيف توصف الأجساد بأنها شاهقة، توصف بأنها طويلة وينطبق وصف الشاهق على الجبال أو البنايات ولكن على كائنات حية توصف بأنها شاهقة! وعبارة أخرى يصف فيها الكاتب بأن ولاء صديقة البطل أعصابها متكسرة، تقريباً هذا؛ وهذا أيضاً لا أعلم ولكنه لا يستقيم في وصف الأعصاب بأنها متكسرة، قد يجوز قول تحطمت أعصابها أو انهارات أعصابها، أما متكسرة فوقفت في حلقي لم استطع تجاوزها. ولكن في المجمل إن قرأت هذه الرواية لن تندم أبداً على ما صرفته من وقت في قراءتها ويبقى وتحسب للكاتب أنها محاولة جيدة جداً في باب صناعة أدب رعب عربي مصري خالص، خالف به غيره من كتّاب الرعب، الذين لم يبذلوا أدنى محاولة في سبيل أن يسلكوا هذا الاتجاه وأكتفوا بالسهل البسيط وهو النحت من أدب الرعب الغربي كما أنُزل، ولكن هنا الكاتب بذل محاولة جيدة محمودة للخروج من عباءة الأدب الغربي ليقدم لنا أدب عربي مصري إلى حد كبير، شعرت بغبطة حقيقية وأنا أقرأ ما أعده أول رواية في باب أدب الرعب العربي.
Comments