اهداني الكاتب والناشر الفاضل الأستاذ/ محمد الدواخلي مجموعة قصصية بعنوان عن بعد للدكتور أحمد فريد. تقع الجموعة القصصية في 140 صفحة وهي من إصدار دار فانتازيون، نحن أمام إحدى عشر قصة قصيرة وبعضها طويل وعدد من القصص في المجموعة لا علاقة لها بأدب الخيال العلمي ومنها على سبيل المثال قصة (السرطان وكل أصحابه) متصلة بتخصص الكاتب وهو الأورام. أولاً: على مستوى الشكل والإخراج: بداية أحب أن أوجه الشكر لدار النشر على التصميم الجيد وعلى التنسيق والإخراج الفني الداخلي الرائع، قلما تجد في دور نشر ورقية إعتناء كهذا بتنسيق العمل. ثانياً: على مستوى سلامة اللغة: وفق حصيلتي الشخصية من اللغة العربية لم اصطاد في العمل خطأ لغوي واحد وهذا يرجع لتمكن المؤلف اللغوي وأيضاً لاهتمام دار النشر بخلو العمل من الأخطاء الإملائية. ثالثاً: على مستوى الأسلوب الأدبي: نحن أمام كاتب متمكن من اللغة العربية بشكل مميز للغاية من وجهة نظري، ويرقى أسلوبه الأدبي إلى الجزل أو السامي وذلك الأسلوب الأدبي القوي يناسب الملاحم والمآسي وأعمال تراجيدية عملاقة، أسلوب قادر على تفجير طاقات تعبيرية رائعة تناسب سبر أغوار الشخصيات وفضح مكنونات مشاعرهم المستترة واستخدامها أيضاً في الأدب الفلسفي والأعمال الرومانسية. وعلى الرغم من أن هذه ميزة كبيرة تحسب للكاتب إلا أنها بالنسبة لي تحسب على الكاتب في هذه المجموعة القصصية، لأن أدب الخيال العلمي لا يحتاج إلى هكذا أسلوب أدبي فكان أعلى من مستوى الطرح ولا يناسبه ليس لأن أدب الخيال العلمي أقل مكانة حتى لا يسيء البعض فهمي ولكن كما يقول المثل لكل مقام مقال، الأسلوب الأدبي المستخدم لا يناسب كتابات الخيال العلمي، فهو يحتاج إلى الأسلوب الأدبي السهل أو البسيط، الأقل جنوحاً للصور والتشبيهات والصور والاستعارات والجمل المركبة والصياغات الأدبية المتنوعة للجملة فهو يجنح للمباشر والوضوح أكثر، قد يختلف معي البعض وهذا حقاً لهم، ولكني أرى هذا الأسلوب الأدبي لا يناسب هذا اللون الأدبي. لا تتخم ألوان روائية أو قصصية كأدب الخيال العلمي والرعب والإثارة الحركية والجرائم والبوليسية ...ألخ، بالصور والتشبيهات والتعبير عن فيض المشاعر بل تحتاج أكثر إلى الوضوح والسهولة في الهضم والاستيعاب والقصد المباشر لأن الموضوع المطروح يطغى على اللغة فتمثل اللغة ثقلاً على المطروح فوجب أن يتخفف فيها الكاتب لأن الموضوع أو المطروح أبدى وأولى وكما أسلفت هي تناسب ألوان روائية وقصصية أخرى ليس منها أدب الخيال العلمي. رابعاً: على مستوى الموضوع أو المطروح: لا أنكر أن الكاتب هنا حاول أن يبتعد عن أجواء الخيال العلمي التي على نحو شخصي ضقت بها ذرعاً، لم تعد بالنسبة لي مهضومة على الإطلاق وكنت أخشى أنني سأكون مضطراً لقراءة هذا النوع من أدب الخيال العلمي المتصل بحرب الكواكب والنجوم والمريخ والقمر والكائنات الفضائية الغازية وآلة الزمن والعوالم المتوازية، شبعت وأصابتني التخمة من هذه النوعية من الكتابات وحتى لا اهضمها من العالم الغربي فما بالك بالعالم العربي ستكون مأساة حقيقية! الكاتب في هذه المجموعة القصصية بذل قصارى جهده أن يبتعد عن هذا الجو المتختم بكتابات أجنبية وعربية غثة. فلنتناول بشكل مختصر كل قصة من قصص المجموعة: 1- مضاربة: هي أفضل قصص المجموعة، فهي تناقش فكرة بيع الذاكرة عن طريق وحدات شرائية واستعارة الإنسان لحلم إنسان آخر أو على حسب ما فهمت أحلام مصنعة يمكن شرائها من سوق الذكريات، القصة على جودتها كان فيها إطالة ولكنها تبقى في المجمل من أفضل قصص المجموعة من حيث معالجة الفكرة وتصلح لأن تكون رواية رومانسية بوليسية مطعمة بأدب الخيال العلمي يكتنفها الغموض، ستكون رائعة لو عمل الكاتب على تطويرها وتحويلها إلى رواية، مساحة الفكرة تسمح بذلك. 2-نجومك: لم أفهم هذه القصة على الإطلاق، هل هي تنتمي لأدب الخيال العلمي أم ماذا؟، هي معاناة أبوين مع طفلة تصارع المرض ثم ترحل عن عالمنا وما بين هذين النقطتين اللتين تمثلان بداية ونهاية القصة بعضاً من الهلاوس التي ينثرها الكاتب من خلال راوي القصة التي لم أفهمها، بدت لي قصة غامضة ومبهمة. 3- باركود: هل هي قصيدة نثرية؟، أم هل يعتبرها الكاتب قصة قصيرة؟، أم هي قصيدة عامودية لأنه كتبها على هذا النحو، لم أفهمها، وحتى لم أفهم موضوعها. 4- نيرو: قصة فلسفية تناقش بشكل عام فكرة التشكيك في الوجود وواقعيته من عدمه وقد طعمها الكاتب بأدب الخيال العلمي، قصة فلسفية ستدفعك حتماً للتساؤل مع الكاتب وأبطال القصة وتبني آراء الطرف الأول ثم تبني آراء الطرف الثاني ثم تنتهي وأنت لا تعرف أي الرأيين يمثل الحقيقة، نسبية الحقيقة والوجود بشكل عام، قصة جيدة. 5- جيتو: قصة جيدة تحكي عن الأناركية، قد أكون مخطئاً في تصوري ولكني أراها في هذه الصورة الفوضى التي تقضي على النظام القائم للإنسانية لبناء نظام آخر، المفترض أن يكون أفضل ولكن يثبت الكاتب فشل وجهة النظر هذه وأن عواقبها ستكون أسوأ بكثير، لا عيب في إعادة استخدام نفس الفكرة ولكن المطلوب في هذا الأمر كله هو معالجة الفكرة بطريقة مغايرة عما أعتدنا مشاهدته وقراءته ومعالجة القاص لهذه الفكرة جاءت مختلفة نسبياً، يطرحها بالسبر في أغوار المشاعر الإنسانية أكثر من التركيز على تأثير تبعيات تغيير النظام الإنساني تكنولوجياً أو علمياً ولكن الكاتب خالف توقعاتنا وركز على تأثير هذا التغيير على المشاعر الإنسانية وكان تركيزه على الأعراض النفسية وليست البيولوجية لهذا التغيير وبالتالي هي قصة جيدة. 6- منافيستو: حاول القاص تطعيمها ببعض التكنولوجيا التي تنتمي لأدب الخيال العلمي ولكن الحقيقة، أرى أنه لا علاقة لها بأدب الخيال العلمي، فهي قصة سياسية تتحدث عن الحاكم في شكله الذي نعرفه جميعاً، المستبد الظالم المنقلب على من قبله ويخشى من الإنقلاب عليه وبالتالي محاولات إصباغ طابع أدب الخيال العلمي عليها لم تفلح. 7- عش: هذه قصة مونولج داخلي لبطل القصة بضمير الأنا، يناسبها مستوى الأسلوب الأدبي الجزل أو السامي، ولا علاقة بينها وبين أدب الخيال العلمي، يتبع الكاتب القصة بشرح مبسط لتجربة عن قطة ما حية أو ميتة، لا أعلم هل هي محاولة لربطها بالقصة أو كأنها تشرح القصة وهو الأمر الذي لم يعجبني على الإطلاق لأنه لم يصلني أياً من هذا، لأن القصة بالنسبة لي تسير في مسار مختلف عن تلك التجربة، هل يحاول الكاتب أن يخبرني أن القصة إنعكاس للتجربة فيمكن ضمها لأدب الخيال العلمي، لم أفهم صراحة. 8- عن بعد: قصة رومانسية جميلة واستخدم فيها الكاتب شكل سردي مختلف يجمع بين فقرات نثرية شاعرية وبين شعر التفعيلة أو الشعر الحر وهو مزج جيد وراق لي كثيراً، راقت لي القصة كقصة لا علاقة لها بأدب الخيال العلمي وما أغضبني حقاً أنه أتبعها أيضاً بشرح لتجربة التأثير عن بعد وحاول أن يؤصل لها علمياً، فهذا أيضاً لم يصلني بتاتاً، أنا تعاملت معها كقصة إنسانية شاعرية رومانسية لا علاقة لها بأي تجارب أو إنعكاس لأي تجارب أو نظرية علمية، فالربط هنا بدا مفتعلاً تماما.ً 9- ألف لام ميم: قصة فلسفية تتمحور حول الألم ومتى يكون الألم ألماً ومتى لا يكون ألماً وأن تعريفه وإحساس الأفراد به نسبي ويختلف من شخص إلى آخر، مناظرة فلسفية بين اثنين، جيدة ولا تنتمي لأدب الخيال العلمي. 10- السرطان وكل أصحابه: العنوان كاشف للغاية لمحتوى القصة مما أفقدني الحماسة لقراءتها لأني خمنت تقريباً عما تدور وأنا لا أحبذ العناوين الكاشفة، أحب العناوين التي تلقى في نفس القاريء الفضول لأن يقرأ لا لأن أكشف للقاريء المحتوى فأفقده لذة الكشف، في هذه النوعية من القصص يتألق الكاتب في استخدامه للأسلوب الأدبي الجزل أو السامي ويناسب موضوع الحكي تماماً، ولكن وصلت إلي الفكرة كاملة منذ أول صفحتين والباقي كان استطراد في صيغ وقوالب وتراكيب مختلفة لنفس المضمون، لم تعطيني أبعاداً جديدة فهي محملة بنفس المضمون ونفس الطرح فالإطالة فيها لم تكن مجدية أو مفيدة للنص ولكني في منتصف هذه القصة التي تتكون من مجموعة قصص قصيرة كنت اقرأها بسرعة لأني فهمت الفكرة ووصلني المضمون منذ أول صفحتين. ملحوظات أخيرة: * الكاتب بأسلوبه الأدبي الراقي يصلح لأن يكتب ملحمة اجتماعية فلسفية درامية عظيمة ستكون خالية من المبالغة وسيشكل اللغة ويطوعها بين يديه ليمتعنا بتعبيرات رشيقة مبتكرة في كثير من الأحيان وقد تجلت في معظم قصصه إن لم تكن كلها. * هذه المجموعة القصصية لا تصنف ضمن أدب الخيال العلمي وربما أنا من فهمت عن طريق الخطأ أنها تنتمي لأدب الخيال العلمي ولكن أكثر من نصف القصص وفق رؤيتي الشخصية والتي يحق للكاتب أن يختلف فيها معي تنتمي لأدب القصة الاجتماعي والفلسفي والرومانسي والإنساني وأقل من نصف قصص هذه المجموعة يمكن تصنيفه على أنه ينتمي لأدب الخيال العلمي. * الكاتب قدم أشكالاً سردية متنوعة ويجب أن أحييه على أنه قرر أن يجرب ويخوض في أشكال وقوالب سردية مختلفة فقلما يفعل الكتّاب ذلك ويجنحون إلى السلم ولكنه كاتب مغامر وأن أفضت هذه المغامرة لعدم هضم بعض الأعمال ولكن يبقى أن يحسب له أنه قرر أن يجرب قوالب سردية مختلفة. * انتظر الكاتب في ملحمة اجتماعية فلسفية وأعتقد وقتها أنها ستكون تجربة مثمرة للغاية لأنها تناسب جمال أسلوبه الأدبي.
Comments