انتهيت من كتابة رواية التربة الحمراء في 30 ديسمبر 2017 وهذا بعد أن استغرقت عشر سنوات في كتابة هذا العمل وهذه المدة تخللها فترات انقطاع عن كتابة الرواية نظراً لظروف حياتية مختلفة من عمل وسفر وتجنيد وزواج ..ألخ.
بالإضافة إلى أني صرفت الكثير من الوقت في القراءة والبحث حول موضوع الرواية وأكثر ما عطلني عن كتابتها في زمن أقصر من عشر سنوات هو هوس المراجعة للعمل مئات المرات.
ومنذ يناير 2018 حتى آخر شهر أكتوبر 2018، تعاملت مع هذه الفترة على أنها أجازتي الصيفية، تخللها كتابات متقطعة لخواطر نثرية رومانسية فانتازية خفيفة لم تتجاوز العشرة آلاف كلمة، بعضها طويل والبعض الآخر قصير.
وبسبب مزاجية الكتابة وهوس المراجعة أيضاً استغرق مني هذا العمل الصغير عشرة أشهر حتى فرغت منه ونشرته في آخر أكتوبر 2018 إلكترونياً.
تقريباً هذا أول عمل اكتبه بهذه السرعة في مدة قصيرة كهذه، ولا أعتقد أنني سأكرر هذه التجربة مرة أخرى، أن اكتب عملاً في هذه المدة القصيرة حتى وإن كان قصيراً.
وإذ يفاجئني بعضٍ ممن يدّعون الكتابة أنهم انتهوا من كتابة 3 روايات في سنة واحدة، كل رواية منهم لا تقل عن 20 ألف كلمة وربما أكثر!
والله شعور عارم بالدهشة والذهول يضرب رأسي ولا أصدق ما أقرأه.
هل فِعل الكتابة بهذه السهولة؟، هل هي خالية من التعب الذهني والإرهاق البدني؟، ألا تعاندك الكتابة أحياناً وتأبى أن تطاوع يدك وإن اُتخِمَ عقلك بمئات الجمل التي تريد إفراغها ولكن تأبى الكلمات أن تتدافع بسهولة ويسر ويتحول الأمر إلى مخاض عسير.
هل تشعر بالرضى عن كل ما تكتبه؟، وأن تقوم بحذفه وإعادة كتابته مرة أخرى ثم حذفه ثم إعادة كتابته، هكذا حتى تسب وتلعن عقلك الذي لا يمل من الحذف وإعادة الكتابة حتى يصيبك أنت الفتور والملل وتنصرف عن الكتابة لبعض الوقت.
ثم تكتب نصاً طويلاً وتحسب نفسك راضياً عنه فتتركه لبعض الوقت ثم تعود إليه فتقرأه وتشعر بالضيق وعدم الإطمئنان لما هو مكتوب فتحذفه بالكامل ويصيبك الإحباط والغم.
حتى ينعم عليك عقلك الشقي بالرضى ويتركك تكتب ما تظنه يستحق ويطمئن إليه قلبك.
ولربما يأتي نعيم عقلك متأخراً أسبوعاً أو شهراً أو سنة أو عدة سنوات، وهذا يحدث ولاشك لكثير ممن يدركون حقيقة الكتابة وأنها ليست بالفعل السهل اليسير.
وعندما تمخر عبر هذه البحار من الغم والصراع والإرهاق والتعب والإحباط والإكتئاب وتصل إلى شاطيء العمل فيسعد قلبك به أخيراً وترنو إليه فترسم شفتيك ابتسامة مرهقة أنك أخيراً فعلتها ووصلت إلى البر الآخر بعد رحلة مفزعة، تتساءل بعدها كيف استطعت الإبحار لهذه الفترة الطويلة واجتزت هذه الرحلة بنجاح في نهاية الأمر، وتعجب لهذا ثم تجلس على شاطيء عملك مسترخياً تكافيء نفسك على هذا العمل الجيد الذي قمت به وقد تطول استراحتك هذه حتى تستعيد روحك مرة أخرى لتباشر بكتابة عمل آخر.
أيضاً من مخاص الكتابة أن تتوقف كل عشر صفحات أو عشرين صفحة تراجع ما كتبته عشرات المرات وتعاودك الآلام مرة أخرى وتحيا من جديد في هذا العذاب الذي حتماً تحبه لأنك لا تستهين بالكتابة، لا تراها أبداً ذلك الفعل السهل، أنك لا ترص بضعة كلمات الواحدة تلو الأخرى ولكنك تشقى حتى تضع الكلمة بجوار الأخرى وتعيد ضبطها من كل الزاويا.
من يقّدر الكتابة ويعطيها حقها يدرك أن الأمر ليس بالهين ولا بالسهل أبداً حتى يخرج علينا أحدهم بثلاثة وخمس روايات في العام الواحد، هذا خبل وسأظل أقول عليه العام بعد العام أنه خبل.
أن تصل إلى حد معين يعتري فيه قلبك الكثير من القلق والريبة فتعرض ما كتبته على من تثق في ذائقتهم الأدبية ليبدوا آرائهم حوله ثم تستقي من آرائهم ما يتفق ورؤاك ثم تشرع في تعديل ما كتبت أو الإبقاء عليه والمضي قدماً وويلك لو شرعت في تعديل ما كتبت بناء على ما سمعت من آرائهم سيكون أمامك أسابيع طويلة للتعديل وبالتالي فإن هذا الأمر على ما فيه من مراحل كثيرة واضطرابات كبيرة بحق وليست بالهينة فكيف اقتنع بمن يخبرني أنه كتب هذه الرواية في سنة واحدة أو أقل أو كتب ثلاثة أو أربعة في عامٍ واحد، هذا جنون.
ليس الأمر على حقيقته بهذه السهولة واليسر، أنها معاناة كاملة، ليس بالمعنى الفانتازي لمعاناة الكاتب أنه تنتابه القشعريرة عندما يحل عليه الوحي ويبقى قابعاً في كهفه حتى ينتهي مما يكتب، ولكني أقصد معاناة حقيقية لمن يولي عمله عناية حقيقية واهتمام بالغ، فيعيد قراءة ما كتبه عشرات المرات وتعديله عشرات المرات حتى يمل مما يصنع ويمل منه القلم!
لا يبارح هذه النقطة حتى يقتله هوس المراجعة، كأنك تقوم بعمل مكتبي شاق وعسير، هو الأمر كذلك بعيداً عن أي أجواء فانتازية أو ارتعاشات ولكن معاناة حقيقية كمعاناة عمل مكتبي شاق تقوم به.
كأنك مهندس تسهر الليالي تنجز مشروع معماري ضخم ومن ثم تعرضه على الروؤساء فيبدون آرائهم وتعديلاتهم فتعود مرة أخرى لإضافة هذه التعديلات وحذف تفاصيل أخرى تبين أنها غير مجدية.
الأمر كما أسلفت بعيداً عن الأجواء الفانتازية هو مرهق بحق وقد لا يكون مسلياً على الإطلاق، تفعله مرغماً ولكنك دأبت على فعله بهذا الشكل لأنك تريد أن تحسن صنعك وأن تقدمه في أبهى حلة ممكنة.
فمن يتفاخر بأنه كتب ثلاثة أعمال في سنة واحدة، يكون لدي انطباع واحد فقط، أنه مدّعي أدب ولا ينتمي إلى هذا العالم من قريب أو بعيد، لأنه لو كان يقّدر الكتابة حق قدرها ما تفوه بهذه الكلمة إطلاقاً، وإن ضربت لي الأمثلة على أن هناك من الكتّاب العالميين من فعلها، فهم في نظري مخبولين لا يولون الكتابة العناية الكافية ولم يحترموها يومياً ولا ترهبني عالميتهم.
هذا ليس بالأدب ولا الفن ولا الإبداع ولك الحق عزيزي القاريء أن ترى في كلامي تطرفاً وأنا الذي أدعو لتجنب المتطرفين في عالم الأدب وتجنب آرائهم ولكني أعترف بأني في هذا الأمر تحديداً متطرفاً أشد التطرف ومن فعلها وأبدع فهؤلاء هم الاستثناء الذين لا يقاس عليهم ولا يستنبط منهم أحكام أو يتم إتخاذهم كحجة على إمكانية حدوث ذلك لأن الإستثناء يمثل شذوذ عن القاعدة العامة.
وعندما أذكر أن العمل الذي تبنيه يجب أن يدمرك نفسياً وعصبياً وذهنياً، أقولها مرة أخرى ليس بالمعنى الفانتازي السخيف ولكني أقصده على وجهه الواقعي، أصابك بما أصابك نتيجة لما أصرفته من وقت في هوس المراجعة وضبط النص وتهذيبه حتى ترقى روحك إلى حلقك وأنت تغرغر!
الأمر تماماً كمديرك الملعون في العمل الذي يطالبك بتعديل العمل مرة تلو الأخرى حتى تكاد تجن من كثرة التعديلات وتصرخ بأعلى صوتك: هل سأظل أعدل فيه إلى الأبد؟ وعندما يرضى مديرك الملعون عن العمل أخيراً لا تتنفس الصعداء ولكن ترد إليك روحك التي غابت عنك وتظن أن حيزت لك الدنيا وما فيها، كذلك هي الكتابة.
يجب أن تصل في فعل الكتابة لنفس هذا الشعور وأنك على وشك أن تفقد أعصابك من كثرة ما راجعت العمل وحفظت كل صفحة في عملك هذا وكل سطر فيه.
أن تشعر بملل ثقيل يحتل كيانك كله ولا تستطيع أن تدفعه بعيداً عنك بل تستلم له راضياً على الرغم من سخطك عنه، نعم هو الأمر كذلك، يحمل في طياته هذا التناقض الجميل.
وأيضاً يجب أن تشعر بأن هذا العمل قام باستنزافك ثقافياً، وأقصد هنا المعنى الحرفي للكلمة وليس معناه المجازي، كأن ثقافتك هذه وحصيلتك المعرفية عبارة عن نقود أودعتها بحسابك البنكي وقد استهلكته خلال شهور بطالتك/كتابتك وبالتالي تحتاج لأنك تقرأ كثيراً حتى تعوض المفقود من حسابك النبكي المعرفي، ولا أرى تعبيراً أدق من هذا لوصف هذا الأمر.
أما أن تكتب ثلاث روايات في عامٍ واحد، هذا لا يعني إلا أمراً واحداً فقط، وهو أن رصيدك الثقافي والمعرفي أساساً يكاد يقارب الصفر أو هو في منطقة الصفر فعلياً، لأن ما كتبته سطحياً بالدرجة التي لا يحتاج معاها لأي مخزون ثقافي أو معرفي.
أقول لهؤلاء بكل صراحة وبدون مواربة أنتم لستم بكتّاب بل أنتم عالة على الأدب والثقافة، أنتم أساءتم للكتابة والأدب وجعلتوه أمام القاريء من السطحي والسذاجة بمكان أن القاريء أصبح ينفر من كتابات اليوم، فكل عمل نكتبه هو مشروع العمر ويجب أن نتعامل معه على أننا لن نكتب مثله أبداً حتى نفرغ منه بعد عناء وجهاد فنقول فلأنتظر مشروع العمر القادم الذي لن اكتب مثله أبداً.
Comments