حديثي هنا عن رواية "التربة الحمراء"لن يكون بهدف الدفاع عنها أو حتى يمكن اعتبارها محاولة استباقية مني لهجوم محتمل من القاريء. أؤمن بأن الكاتب الذي ينبري للدفاع عن عمله أو تبريره هو يدرك تماماً ضعف عمله، مما يستلزم منه أن يدافع عنه كأنه طفلاً قاصراً غير قادر على أن يفعل ذلك منفرداً وهذا يعني بالضرورة أن العمل لا يحمل مقومات فنية كافية ليدافع النص عن نفسه بنفسه. ولكني استغل الحديث عن روايتي "التربة الحمراء" لتوضيح بعض الموضوعات الأدبية الهامة لأي كاتب وأيضاً للقاريء أن يضعها في حسبانه، بعضها قد أثرته في كتابات سابقة على مدار عدة شهور ولكني أرتأيت أن أجمعها اليوم بالحديث عن مثال واضح وهو روايتي. إذا احتوى العمل على كتابة تاريخية أو علمية أو مرويات من الأثر والتراث أو الدين، هل يجوز وقتها محاكمة النص الأدبي بناء على دقة المعلومات الواردة فيها من عدمه؟! عاب الكثيرين على أحمد مراد في روايته أرض الأله، أنه من وفق معتقدهم وما يؤمنون حول قصة سيدنا موسى أنه أورد معلومات تاريخية تفتقر إلى الدقة أو غير متفق عليها وقرأت عدد من الريفيوهات التي تندرج تحت محاكمته تاريخياً/معلوماتياً. ويعتبر البعض أن هذه الريفيوهات تندرج في باب النقد الأدبي، والحق أنها ليست لها أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالنقد الأدبي ومقوماته وآليات عمله. لا يحاسب الروائي على ما يورد من معلومات أياً كانت طبيعتها في عمله الأدبي طالما أنه أقر وأعترف منذ البداية أنه عمل روائي أي نص أدبي بحت. إن أورد عدد من المرويات التاريخية التي تفتقر إلى الدقة أو المصداقية أو مشكوك في سند هذه الروايات، هذا لا يعيب الكاتب، أجد الكثيرون يتذمرون من هذا التصريح الذي يرونه غريب وشاذ. من حقك أن تعترض ولكن هذا لا يتصل بآليات النقد الأدبي لأي نص أدبي، أن يلام المؤلف إذا قام بالإضافة أو الحذف من حدث تاريخي أو قام حتى بتشويه ذلك الحدث التاريخي فهي ملامة في غير محلها لأني كما ذكرت لا تتصل بعملية النقد الأدبي ومعايير التحليل الخاصة به لأي نص أدبي. أن أورد الكاتب معلومة علمية قام بتضفيرها بخياله وأضفى عليها أبعاد تتلبس ثوب العلم وهي ليست من العلم بشيء. لا يحاكم المؤلف على ذلك إلا إذا أقر وأعترف بأن هذا العمل يرصد فترة تاريخية معينة، أو يؤرخ بشكل أدبي لحقبة تاريخية معينة، فبالتالي هو يقدم بحث تاريخي مدقق تم التحري من صحة مصادره في ثوب أدبي، وشتان بين ذلك القوام الأدبي وذاك. فهذا نص أدبي مقيد وذاك نص أدبي حر غير مقيد بأي قواعد أو شروط ملزمة بخصوص المعلومة المقدمة. من يتصور أن النص الأدبي يهدف إلى تثقفيف القاريء فالخطأ عند من تصور ذلك، ليس هذا هو هدف النص الأدبي إلا إذا أقر الكاتب وأعترف بذلك فهذا شأنٍ آخر. للمؤلف مطلق الحرية أن يتلاعب بالتاريخ كيفما يشاء أو يقلبه رأساً على عقب أو حتى يزيف التاريخ بالكامل من عنده ويضفره بحقبة تاريخية معلومة ولكن ينسج لها من خياله أحداث تاريخية مغايرة تماماً بشخصيات أخرى. له الحرية أن يفعل ذلك وكذلك مع المعلومات العلمية أن يتلاعب بها أو يتجاهل بعض الحقائق العلمية التي قد لا تخدم النص أو يتجاهل بعض الحقائق الخاصة مثلاً بالتنظيم الإداري لبعض المؤسسات أو لبعض أجهزة الدولة طالما لا تخدم النص. وأعود وأكرر إلا إذا أقر الكاتب بأنه يرصد الواقع الحاضر أو الماضي كما هو، فهنا تختلف كلية طريقة التقييم. في روايتي التربة الحمراء، أوردت العديد من الأحداث التاريخية التي قد يتطرق الشك إلى بعضها في مصداقيته أو ثبوته أو حتى أنها مروية تاريخية مكذوبة بالكامل، لا يعنيني في أي مقام مصداقية تلك المروية التاريخية من عدمها واستخدامي لها من عدمه موقوف على مدى إمكانية أن تخدم النص من عدمه. أن أضفي أنا من عندي بعض المعلومات التاريخية أو العلمية غير الحقيقية، لي مطلق الحرية أن أمارسه طالما لم أقر وأعترف بأن هذا العمل الأدبي يهدف إلى تأريخ فترة تاريخية معينة. محاكمة روايتي كمثال في هذا المنشور لا تتم على مدى مصداقية ما ورد فيها من معلومات من عدمه، لم أقل أو أقر أو أعترف بأني أقدم كتابة تاريخية، أو علمية، فإن شئت أن تحاكمني عليها فهذا شأنك لا علاقة لي به وهذا هو تأويلك أنت كقاريء للنص وإعادة إنتاجك للنص بصورة أخرى. قد يكون لدي هدف من وراء هذا النص الأدبي أن ألفت نظرك لقضية معينة، ربما أفعل ذلك وربما لا أفعل ذلك ولكني لست ملزماً أمامك بطرح الحلول، يكفي أن ألقي بين يديك ببضعة أسئلة وجعبة تمتليء بالشكوك وأشركك كقاريء في البحث عن حلول أو بحث وتقصي من طرفك لهذه الشكوك التي أثيرها. لست ملزماً كأديب أن أقوم بدور المصلح الاجتماعي كما يحلو للكثير أن يتبنى هذا الدور من خلال عمله الأدبي وإن كنت لا أحجر على من يفعل ذلك ولكني لا استسيغه بالمرة. كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها لأن يتقمص الكاتب الدور الذي يحلو له وهو يكتب عمله الأدبي. ما يهمني في كل ذلك هو المقومات الفنية التي قامت على أكتافها هذا النص الأدبي. كيف بدت وتجلت وأجاد فيها الكاتب أو إلى أي مدى أخفق في ذلك؟ أما كل رسائله النبيلة وقيمه الأخلاقية التي يسعى لبثها من خلال هذا النص الأدبي لا تعنيني في إطار التقييم الأدبي للعمل. هذه قضية أخرى لا علاقة لي بها في مجال تقييم فنيات العمل ومقوماته. من السخيف أن يميز الكاتب بين الحقائق التاريخية أو العلمية الواردة في نصه الأدبي وبين أخرى من بنات أفكاره أو خياله بنجمة أو ما شابه! سخيف جداً حقيقة أن يفعل الكاتب ذلك، أنا لم أدعِ أني أقدم لك بحثاً تاريخياً أو ورقة بحث أو دراسة تتبع قواعد علمية في البحث والتقصي. كأديب دع الحقيقي يختلط بالمتخيل، هذا حقك ككاتب فأنت صانع العمل الذي تخلقّه بين دفتي كتابك هذا. فلتصنع فيه ما شئت دون خجل أو حذر أو تحذير للقاريء بين المتخيل والحقيقي. أنا أنظر بعين التقييم الأدبي إلى رسم الشخصيات وكيف تم بناؤها طول خط العمل، كيف رسم الكاتب انفعالاتها، كيف تجلى جمال اللغة لديه في وصف هذه المشاعر وأن يسبر أغوارها ويستخرج مكنوناتها. كيف استطاع أن يتسلل للاوعي الخاص بشخصياته ويفضحه أمامنا متسلحاً في كل ذلك بجمال اللغة وطاقاتها التعبيرية، إن يعيد رسم الواقع هو مرة أخرى لا أن يضع أمامي الواقع كما هو كأني أشاهد فيلماً تسجيلياً. كيف استطاع أن ينفذ بالحوار بين الشخصيات إلى قلبي ويتسلل بخبث إلى عقلي ويزرع فيه ما شاء من أفكار. كيف وصل بالتخيل عن طريق اللغة لأن يرسم لي لوحة متكاملة أعجز أنا كقاريء عن رؤيتها على أرض الواقع. أن تصف لي أن القمر مضيء فضي اللون فأنت لم تقدم الجديد لي ولكن أن يصلني نفس هذا المضمون عن طريق وصف انعاكس ضوء القمر على صفحة الماء ويصل لي أيضاً نفس هذا الشعور لهو الإبداع بعينه، لا يصف الكاتب الظواهر والأشياء من حوله كما هي على حالها إلا إذا كان نوع العمل ملزماً لذلك ولكن أن يصف لي جوهرها وانعكاساتها على الموجودات من حولها لهو الأروع والأكثر إبداعاً. عدم إقحام صوت الكاتب في النص – أن لا يتورط الكاتب بإطلاق الأحكام الجازمة الباتة على شخصياته أو الأحداث التي تجري فيها عمله، أن لا يقدم لي أحداث يمكنني التكهن بها بسهولة فيقتل عندي كقاريء عامل التشويق للصفحات التالية وإن كشف لي بعض المستور فلا يفلت منه عنصر التشويق ولكن يضفي إلى المزيد من التشويق. هكذا يحكام النص وعلى غيره من المعايير التي أرى بها النص، فقط من خلال هذا الإطار. أنواع الرواة المستخدمين في العمل، هل يستخدمهم جميعاً أم بعضاً منهم أو اكتفى بنوع واحد فقط من الرواة، يجب أن يكون الكاتب على دراية تامة بأنواع الرواة حتى يكون واعياً بما يكتب، هذه كلها مهارات كتابية تميز كتابة عن أخرى. قد يسيء الكاتب استخدام أنواع الرواة ويكثر منهم أو يلتزم بواحدٍ منهم فقط مما يفسد المتعة السردية وذلك مرجعه كله لجهله المفرط بأنواع الرواة. كل المبتدئين في الكتابة بلا استثناء يستخدمون الراوي العليم بكل شيء، فهو الأسهل في الكتابة، أسلم أنواع الرواة هو الرواي العليم ولكن ألا يمكن أن يضفي ذلك على النص الملل. كذلك أنواع السرد، هذا ما يحاكم عليه الكاتب وليس ما يقدمه من معلومات داخل عمله الأدبي، أي أنواع السرد استخدم وكيف كانت الحبكة والعقدة والحل، عندما وصل العمل إلى ذروته كيف اشتركت الشخصيات كلها الثانوية أو الرئيسية في حل العقدة أو الفشل في حلها أو الوقوف بشكل سلبي دون حلها. يجب أن يكون الكاتب واعياً بكل ذلك وأن يكون الناقد أو المقيم للعمل واعياً أيضاً بكل ذلك لأنني أرى ريفيوهات عظيمة كلها لا علاقة لها بالنقد الأدبي وتنال الاستحسان والإشادة وهي ليست من معايير التقييم الأدبي في شيء! أن ينجح الكاتب معي كقاريء في إقناعي بردود أفعال غير منطقية لشخوص عمله لا تتفق ولا تنسجم مع الواقع ومع ذلك اتقبلها بسهولة ويسر بل واتعاطف معها وأؤيدها، هنا تكمن براعة الكاتب، أن تبرر لي غير المنطقي، أن تقنعني باللامعقول، أن يتحول الكاتب إلى ساحر يبهر الأعين ويجعلها تصدق ما لا ترى. أن تحول أبسط الأشياء من حولنا إلى أعجايب ومعجزات، كم كاتب اتفق له أن يستحوذ على هذه الأدوات الإبداعية الثمينة والغالية جداً، قلة ممن يجيدون هذا الفن. يا أخواني تعلموا كيف تحاكموا النصوص. أقولها بوضوح ليس ما سبق ذلك تمهيد استباقي لما يمكن أن ينال روايتي من نقد وهجوم لاذع، اهتم بالنقد والهجوم اللاذع ولا أخافه أو اتحاشاه فهو مما أحبه وأرغب فيه. ولكن للنقد أصوله التي يجب أن تتبع وأما من حاكم نصي تاريخياً أو معلوماتياً فله دبر أذني وكما قال كأنه لم يقل ليس تقليلاً لشأنه ولكن لأنه يخوض فيما لم أقر أو أعترف به فهو شأنه فكأنه لا يوجه لي هذا الحديث فأسمعه غيري لا شأن لي بالأمر أما أن يتناول المقومات الفنية التي يقوم عليها عملي فكلي آذان صاغية وقتها.
top of page
bottom of page
Comments